أخبار ثقافية فنيةسلايدر

كتاب “جناح وغربة” – المغتربون اللبنانيون شمس لا تغيب

بقلم الاستاذ هيثم جمعة

الفهرس

تقديم ……………………………………………………………………………………………………………….

المقدمة ……………………………………………………………………………………………………………

الفصل الأول: العالم والهجرة ……………………………………………………………………………

الفصل الثاني: تاريخ الهجرة اللبنانية بشكل عام واتجاهاتها …………………………………..

الفصل الثالث: الأدب والصحافة في بلاد الاغتراب وتأثيرهما

                 في المجتمعات المتقابلة ……………………………………………………………….

الفصل الرابع: المبدعون اللبنانيون  في الخارج …………………………………………………..

الفصل الخامس:

تجربة وزارة المغتربين ………………………………………………………………

تجربة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم ……………………………………….

نظرة مستقبلية الى الاغتراب اللبناني ……………………………………………

مراجع الكتاب …………………………………………………………………………………………………..

المقدمة

لبنان له فلسفة خاصة مع الهجرة منذ القدم كان اللبناني سباقا في حمل فكرة الاغتراب والسفر ويكاد هذا الوطن ان يكون الوحيد في العالم من حيث انتشار ابنائه على مساحة الكرة الأرضية وتوزعهم في مجتمعات متعددة ذات قوانين مختلفة ومتميزة ولغات تختلف من بلد الى بلد وأنظمة حكم ذات نظم دستورية خاصة واديان ومعتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد وتعقيدات والغاز يصعب حلها في بعض الاوقات الا ان هناك رسالة حضارية يحملها كل مغترب لبناني حيثما اتجه مع كل هذه الامور تجرأ اللبناني وغامر حاملا معه رسالته الانسانية رسالة حضارية يحملها من موطن الحضارات لبنان الى العالم ففي الوقت التي كانت فيه شعوب تستولي على شعوب اخرى وتستعمرها وتستعبدها كان اللبناني يمشي عكس التيار اذ لم يتقدم الى اي بلد كانسان غازٍ او مستعمر انما تقدم ليعيش مع الشعوب التي قصدها كما تعيش بعاداتها وتقاليدها وتعلم لغاتها والاندماج في المجتمعات الجديدة دون التحلل من العادات والتقاليد الوطنية ودون التخلي عن الانتماء. علما ان بعض المناطق وصلوا اليها قبل ان يصل احد قبلهم.

ان فكرة الاغتراب هي هي لم تتغير منذ القدم كانت اسبابها متشابهة وقد تشعبت الى عدة مراحل بدأت مع حفنة من الرجال توجهوا غرباً وعادوا بعد مدة او عادت اخبارهم تحمل ملامح التغيير في الحياة ووجود الفرص لحياة افضل فمنهم من تزوج ورحل ومنهم من تشجع على السفر وهكذا بدأ هذا المجتمع الصغير يتجه الى هذا الفضاء الواسع وأصبحت فكرة الخروج من الواقع المعاش الى مساحات التأمل بعيش رغيد حقيقة معاشة في بلدان الاغتراب.

وقد ترك الاغتراب اللبناني بصماته في العالم اجمع فكانت اعمال المغتربين وسيرهم تكتب بأحرف من نور وتنقش نقشا وجدانيا فلسفيا على جدار الذاكرة اللبنانية.

ولعل من المفيد وفي سياق البحث ان نكشف عن معنى الاغتراب فكلمة اغتراب بالعربية يقابلها بالفرسية كلمة Alienation والمشتقة من الكلمة اللاتينية Aliento المستمدة من فعل Alienan الذي يعني ملكية شيء ما الى آخر او الانتزاع او الازالة ويجمع الباحثون ان هيجيل هو اول من استخدم في فلسفته مصطلح الاغتراب واعتبره اغتراب روحي ينشأ عن انفصال الذات عن المجتمع واعتبر ان للاغتراب وجهان الوجه السلبي الذي يؤدي الى العزلة والوجه الايجابي الذي يؤدي الى الابداع ولعل هذا التعريف ينطبق على مفهوم الهجرة اللبنانية ايجابا اذ لم يظهر الوجه السلبي للاغتراب اللبناني كعزلة وانطواء انما تجسد في اشكال متعددة تنبض بالحياة حيث كان الاغتراب اللبناني رسالة وكان المغترب رسولا دائما الى الشعوب على حد ما قاله رئيس دولة ساحل العاج وراعي استقلالها فيليكس هوفويت بوانيه الملقب حكيم افريقيا “ان اللبنانيين المقيمين في ساحل العاج ليسوا اناسا عاديين بل رسل بعث بهم الله لتنمية هذه الارض واعمارها وتقدمها.

اذا اللبناني اغترب، وهاجر، وكان يحمل دائما لبنان في ذاكرته وكان الحنين الدائم الى الوطن يحفر عميقا في القلب والوجدان، وهذا ما عبر عنه جبران خليل جبران بقوله: “سوف يجيء يوم اهرب فيه الى الشرق ان شوقي الى وطني يكاد يذيبني”.

بعد هذه المقدمة البسيطة، نقدم في هذا الكتاب خلاصة معرفة وتجربة في حقل الهجرة والاغتراب، لا سيّما الاغتراب اللبناني الذي أغنى الحياة اللبنانية بعالمه.

يتألف هذا الكتاب من خمسة فصول:

الفصل الأول: العالم والهجرة، يجسد ظاهرة الهجرة العالمية وتطورها وواقعها في السنوات الأخيرة.

الفصل الثاني: تاريخ الهجرة اللبنانية بشكل عام واتجاهاتها، حيث يسلط الضوء على مراحل الهجرة اللبنانية منذ بدايتها مرورا بعدة حقبات زمنية الى اليوم، وواقع هجرة الأدمغة واقتراح الحلول المناسبة.

الفصل الثالث: الأدب والصحافة في بلاد الاغتراب وتأثيرهما في المجتمعات المتقابلة

  • نبذة عن الأدب المهجري
  • معلومات عن الصحف اللبنانية الاغترابية قديمها وحديثها.

الفصل الرابع: المبدعون اللبنانيون الذين لمعوا في دنيا الاغتراب.

الفصل الخامس: ويتألف من ثلاثة عناوين:

  • تجربة وزارة المغتربين.
  • تجربة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم.
  • نظرة مستقبلية الى الاغتراب اللبناني – خطة عمل انطلاقاً من تجربة طويلة.

الفصل الاول

العالم والهجرة

لم تعد الهجرة العالمية مجرد ظاهرة إنسانية بين الشعوب، انما اصبحت الآن احدى السمات الرئيسية في العالم، والتي تستحوذ الكثير من النقاشات المتعلقة بسياسات الدول الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتنموية.

وكذلك بأبحاث علماء الاجتماع المتعلقة بالآثار الاقتصادية والاجتماعية للأشخاص الذين يتنقلون عبر الحدود، وكذلك تأثير الهجرة على أسواق العمل والأجور في الاقتصاد العالمي وكذلك في بلدان المنشأ والمقصد.

إن حركة الناس عبر الحدود لم تتوقف لكنها في النصف الثاني من القرن العشرين زادت وتيرتها، خاصة مع تقدم وسائل النقل وتطور الاقتصاد العالمي. ان اكثر من 90% من المهاجرين عبر الحدود انتقلوا بشكل طوعي وغالباً لأسباب اقتصادية و10% كانوا من اللاجئين او طالبي اللجوء، الذين تركوا بلدانهم هربا من الحروب والصراعات او الاضطهاد السياسي، وظروف المناخ… وان نصف عدد المهاجرين في العالم قد انتقل من البلدان النامية الى بلدان المتقدمة.

ان اكثر من ربع مليار انسان مهاجر عَبَر الحدود بحلول العام 2015، وقد اسهموا 9.4% من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، او ما يقرب من 6.7 تريليون دولار في العالم، أي بزيادة 3 تريليون دولار مما ينتجوه لو كانوا في بلدانهم، وهذا سببه انهم هاجروا الى بلدان متقدمة وكانوا من ذوات مهارات مختلفة متقدمة ومتوسطة.

وكان لهم التأثير الكبير في تمكين بلدان المقصد من تحقيق النمو عن طريق توسيع القوة العاملة، وردم الثغرات المتأتية عن قلة الولادات في بعض الدول، وتقوية مصادر الضرائب والرسوم.

إن 65 بالمائة من المهاجرين يعيشون في البلدان ذات الاقتصادات المتقدمة، وان ثلث المهاجرين العالميين انتقلوا من بلد نام الى بلد نام آخر. ولقد زاد عدد المهاجرين في الخمسين سنة الماضية ثلاثة اضعاف، وقد بلغ في الخمس عشرة سنة الماضية وحتى العام 2015 حوالي 74 مليون نسمة، توجه اغلبهم الى اماكن يعتقدون انهم سيجدون فيها الوظائف والفرص.

ان 8% من هؤلاء المهاجرين كانوا من البلدان النامية. وأعلى نسبة من المهاجرين كانت من أميركا اللاتينية وكانت 18%، تليها آسيا وأوروبا الشرقية وكانت 16%، اما الشرق الاوسط وافريقيا فقد بلغت 14%.

اما اكثر الدول التي ينتقل منها المهاجرون فهي الهند والمكسيك والصين، ومن كل زوايا العالم واغلب وجهاتهم خمسة مناطق: اوروبا الغربية، دول اميركا الشمالية، دول مجلس التعاون الخليجي، اوقيانيا، ودول شرق وجنوب آسيا.

شكلت الهجرة البديل للنمو البشري في البلدان المستقبلة، حيث كان للهجرة الأثر الواضح في تعويض النقص في هذه البلدان. فمنذ العام 2000 نما عدد المهاجرين بنسبة 3%، بينما كان نمو السكان في البلدان ذاتها لا يتجاوز 0.6% . إذاً، المهاجرون كانوا شركاء أساسيون في نمو السكان في البلدان المتقدمة. واليوم يشكل الجيل الاول من المهاجرين 13% في غرب اوروبا، و15% من سكان اميركا الشمالية، و 48% من سكان مجلس التعاون الخليجي .

ان سوق العمل اصبحت اكثر عالمية، والمهاجرون يسدون الثغرات بمساهمتهم بالعمل وتنمية البلدان، فمنهم من يقوم بالاعمال الشاقة في قطاعات البناء مثلاً وفي قطاع الخدمات، ومنهم من ذوي الاختصاصات العالية الذين يقومون بأداء ادوار جيدة تساهم في تقدم البلدان التي يعملون بها.

لم تعد الهجرة مقتصرة على الرجال، انما للنساء نصيب فيها ايضا، وتذهب بعض الاحصاءات الى اعتبار ان عدد النساء المهاجرات يصل الى نصف عدد المهاجرين بشكل اجمالي.

لقد ثبت اليوم ان الهجرة هي أحد أهم حركات الانتاجية العالمية. اذ اننا عندما ندرس النتائج الاقتصادية والاجتماعية نرى بوضوح مدى تأثير المهاجرين على المجتماعات المستقبلة.

لكن هذا لا يجعلنا ننسى ان الدول المرسلة، حتى ولو كانت تستفيد من مغتربيها، الا انها قد خسرت افضل ابنائها، والغالبية من المهنيين المتعلمين واصحاب المهارات العالية، ضمن ما سمي بـ”هجرة الادمغة” والتي يمكن ان تسبب للمواهب والكفاءات اشكالية كبيرة في بلد المنشأ جراء هذه الخسارة.

بقي موضوع الهجرة في الظل، الى ان بدأ العالم يشعر بتأثير هذه الظاهرة على اقتصادات الدول، وعلى حراك الموارد البشرية، لذلك تنادت الدول لعقد اجتماع غير رسمي بدأ في القاهرة عام 1994، وذلك نتيجة مساعي الأمم المتحدة في ايجاد حلول داعمة للدول التي تعتبر مصدر لحركات الهجرة والدول التي تعتبر مستقر لهذا التحرك. وبعد ذلك تم تأسيس اللجنة الدولية للهجرة، عام 2003، بمباركة وعمل جاد من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في تلك الفترة، وذلك من اجل دعم المنتدى الدولي العالمي للتنمية والهجرة. وقد عقد اجتماع تحت سقف الامم المتحدة في نيويورك في 14-15 ايلول عام 2006، حيث اتسم هذا الاجتماع للمرة الاولى بصفة الاجتماع الهام الاول، تحت رعاية الامم المتحدة والتي تم اطلاق اسم ” الاجتماع العالمي المستوى لمناقشة الهجرة الدولية وسبل ايجاد وسائل التطوير المستدامة عليها ” ومن خلال المواضيع التي جرى اثارتها في هذا الاجتماع تم الاتفاق على اجراء دراسة واسعة معمقة للهجرة وتشكيل المنتدى العالمي للتنمية والهجرة.

كما قدمنا ان المنتدى يعتبر غير رسمي informal وغير ملزم للدول حول الأمور التي يتفق عليها لكنه يستهدف تطبيق القرارات المتخذة بشكل طوعي وكذلك فان المشاركة فيه لتبادل وجهات النظر وهو امر مفتوح وتطوعي وهذا ما يشجع الدول المشاركة على التعاون فيما بينها للتغلب على مشاكل الهجرة واللجوء.

ان المنتدى وان كان يعقد برعاية الامم المتحدة لكنه غير مرتبط بشكل مباشر مع الامم المتحدة الا انه يرفع تقاريره الدورية الخاصة باجتماعاته الى الامم المتحدة ويحافظ على علاقات وثيقة معها وبالتالي يتم عرض مشاكل الهجرة على المجتمع الدولي.

بدأت الاجتماعات العامة للدول عام 2007 ، حيث تم تداول رئاسة هذا المنتدى بشكل دوري بين الدول: بلجيكا 2007- الفليبين 2008- اليونان 2009- المكسيك 2010- سويسرا 2011- موريتانيا 2012- السويد 2013/2014 – بنغلادش 2016 والمانيا 2017.

لقد ناقش المنتدى على مدى هذه السنوات مواضيع متعددة تناولت:

تأثيرات الهجرة واللجوء على التطور الاقتصادي والاجتماعي – حقوق المهاجرين وحمايتهم-  مكافحة تهريب البشر والاتجار بالبشر – الهجرة – موضع التحويلات- مناقشة تطوير العلاقات الثنائية من اجل معالجة المشاكل الناجمة عن الهجرة واللجوء.

كما وان المنتدى كان يستهدف تحقيق التقدم في المجالات والنقاط التالية:

  1. مناقشة العلاقة بين الهجرة والتطوير ودراسة الصعوبات التي تواجه تطبيق سياسات الهجرة، ونقل الحوار الخاص بالتعاون الثنائي الى المراجع القابلة لاتخاذ القرار، والقيام بالتواصل مع الجهات المعنية الرسمية من اجل وضع الخطوات التنفيذية.
  2. القيام بتبادل المعلومات والخبرات الموضوعية والقابلة للتطبيق من اجل استغلال الفرص الايجابية والتطويرية الناتجة عن حركات الهجرة واللجوء.
  3. تحديد الحاجات والنواقص المتعلقة بالاجراءات العملية المتخذة لحل مشاكل الهجرة واللاجئين، وذلك من خلال رفع مستوى التضامن الاقليمي والدولي في مجال الهجرة والتطوير وصياغة الطرق والسياسات الاكثر فعالية.
  4. تشكيل الشراكة بين الدول، المنظمات الدولية والجاليات في المغتربات.
  5. تحديد البرامج التطويرية والأولويات الدولية في مجال التعامل مع امور الهجرة .

مع تقدم المباحثات بشأن الهجرة ووصول الحوار العالمي الى تفاهمات معينة كانت ستتوج باتفاق عالمي أو عهد عالمي للهجرة يعلن في الامم المتحدة عام 2015، إلا أن الاحداث التي وقعت في منطقة الشرق الاوسط فيما سمي ” بالربيع العربي”، غيرت الاتجاهات وبعض المفاهيم وبعض التفاهمات حول الهجرة واللجوء.

لذلك انكب العالم من جديد على ايجاد صيغة اخرى للهجرة واللجوء، وصدر البيان العالمي عن الامم المتحدة في ايلول عام 2016، تمهيداً لصدور العهد العالمي للهجرة واللجوء عام 2018، آخذاً في الإعتبار ان السياسات والمبادرات المتعلقة بمسألة الهجرة ينبغي ان تشجع على اتباع النهج الشامل الذي يأخذ في الحسبان اسباب هذه الظاهرة ونتائجها، معترفاً بأن الفقر وتخلف التنمية وانعدام الفرص وسوء الادارة والعوامل البيئية هي من بين العوامل المحركة للهجرة. وفي المقابل، يمكن ان تؤدي السياسات الراعية لمصالح الفقراء والمتعلقة بالتجارة وتوفير فرص العمل والاستثمارات الانتاجية، الى تحفيز النمو وتهيئة امكانات انمائية هائلة. ونلاحظ ان الاختلالات الاقتصادية الدولية والفقر وتدهور البيئة، الى جانب غياب السلام والامن وعدم احترام حقوق الانسان، كلها عوامل تؤثر على الهجرة الدولية.

الاتفاق العالمي للهجرة واللجوء:

يمكن ان يشمل الاتفاق العالمي، على سبيل المثال لا الحصر، العناصر التالية:

  • الهجرة الدولية باعتبارها واقعا متعدد الأبعاد له اهمية كبرى في تنمية بلدان المنشأ والعبور والمقصد، كما اقر بذلك في خطة التنمية المستدامة لعام 2030.
  • الهجرة الدولية باعتبارها فرصة ممكنة للمهاجرين وأسرهم.
  • الحاجة الى معالجة اسباب الهجرة، بما في ذلك من خلال تعزيز الجهود في مجال التنمية والقضاء على الفقر ومنع نشوب النزاعات وحلها.
  • اسهام المهاجرين في التنمية المستدامة والعلاقة المتبادلة المعقدة بين الهجرة والتنمية.
  • تيسير الهجرة وتنقل الاشخاص على نحو منظم وآمن وقانوني ومتّسم بالمسؤولية. بما في ذلك من خلال تنفيذ سياسات الهجرة المخطط لها والتي تتسم بحسن الادارة، وقد يشمل ذلك انشاء وتوسيع مسارات الهجرة النظامية والآمنة.
  • نطاق زيادة التعاون الدولي بهدف تحسين ادارة الهجرة.
  • آثار الهجرة على رأس المال البشري في بلدان المنشأ.
  • التحويلات المالية بوصفها مصدرا هاما لرأس المال الخاص ومساهتمها في التنمية، وتعزيز نقل التحويلات المالية بطريقة أسرع وأرخص وأكثر أمنا من خلال القنوات القانونية. في بلدان المصدر والبلدان المتلقية على السوء، بما في ذلك عن طريق خفض تكاليف المعاملات.
  • الحماية الفعالة لحقوق الانسان والحريات الأساسية لجميع المهاجرين، لا سيما النساء والاطفال، ايا كان وضعهم من حيث الهجرة، والاحتياجات المحددة للمهاجرين في الحالات الهشة.
  • التعاون الدولي من اجل مراقبة الحدود مع الاحترام الكامل لحقوق الانسان الواجبة للمهاجرين.
  • مكافحة الاتجار بالاشخاص وتهريب المهاجرين واشكال الرق المعاصرة.
  • تحديد الاشخاص الذين تم الاتجار بهم والنظر في تقديم المساعدة، بما في ذلك الاقامة المؤقتة او الدائمة، وتصاريح العمل، حسب الاقتضاء.
  • الحد من حالات الهجرة غير القانونية وتقليل أثرها.
  • معالجة حالات المهاجرين في البلدان التي تمر بأزمات.
  • تعزيز ادماج المهاجرين في المجتمعات المضيفة، حسب الاقتضاء، وحصول المهاجرين على الخدمات الاساسية والخدمات المراعية للاعتبارات الجنسانية.
  • النظر في السياسات المتعلقة بتسوية وضع المهاجرين.
  • حماية حقوق العمل وتهيئة بيئة آمنة للعمال المهاجرين والعاملين في الوظائف غير المستقرة، وحماية العاملات المهاجرات في جميع القطاعات، وتعزيز تنقل اليد العاملة. بما في ذلك الهجرة الدائرية.
  • مسؤوليات المهاجرين وواجباتهم تجاه البلدان المضيفة.
  • العودة والسماح بالدخول من جديد وتحسين التعاون في هذا الصدد بين بلدان المنشأ وبلدان المقصد.
  • تسخير مساهمة المغتربين وتعزيز الروابط مع بلدان المنشأ.
  • مكافحة العنصرية وكره الاجانب والتمييز والتعصب تجاه جميع المهاجرين .
  • البيانات المصنفة عن الهجرة الدولية.
  • الاعتراف بالمؤهلات والتعليم والمهارات الاجنبية، والتعاون في مجال الاستفادة من الاستحقاقات المكتسبة وامكانية نقلها.
  • التعاون على الصعيد الوطني والاقليمي والدولي بشأن جميع جوانب الهجرة.

خاتمة

ان الهجرة العالمية لا تختصر بصفحات معدودة، انما تحتاج الى مجلدات كثيرة بحجم مواضيعها المتنوعة، انسانياً واقتصادياً وسياسياً.

أردنا من خلال هذه الاضاءة المتواضعة، ان نلفت الى ان متغيرات كثيرة ستطرأ على موضوع الهجرة، وان مفاهيم  كثيرة ستتغير. فمن هنا، علينا كلبنانيين مقيمين ومهاجرين، ان نتأقلم مع هذه المتغيرات، وان نحافظ على خصوصية الاغتراب اللبناني وفلسفته الانسانية التي تقوم على نسج الروابط مع المجتمع الذي يستقبله وعلى العلم والتقدم وليس على الحرب والاجتياح والغزو. لقد تعامل اللبناني المهاجر مع كل الشعوب التي هاجر اليها بإنسانية، فصادق سكانها، وتعلم لغتهم، واستطاع ان يندمج داخل نسيج المجتمع، وتمكن من التأقلم مع ثقافة جديدة.

 وحيثما حلّ، شارك اللبناني في صنع حياة المجتمعات والدول، وأسّس لحضور انساني وثقافي واقتصادي وسياسي هام.

ان المطلوب اليوم التعاون الفعال بين الجاليات والدولة لاستيعاب المتغيرات، ويجب ان تكون الخطط الموضوعة متناسبة ومتناسقة مع التوجهات الجديدة للعالم، والمسؤولية كبيرة ان نحافظ على خصوصية الاغتراب اللبناني.

الفصل الثاني

 تاريخ الهجرة اللبنانية بشكل عام واتجاهاتها

     الهجرة اللبنانية ظاهرة فريدة بين الهجرات، وقد يكون لبنان البلد الوحيد في العالم الذي يفوق عدد مغتربيه عدد مقيميه حتى أطلقت على تلك الهجرة أوصاف ونعوت ومفردات متعددة، من أهمها: “الملحمة اللبنانية”، و”لبنان المغترب”، و”لبنان عبر البحار”، و”الإنتشار اللبناني في العالم”، وسواها من التسميات التي تعبّر عن فرادة الإنسان اللبناني وتوقه إلى اكتشاف المجهول وهو الذي نزح عن محط آماله ومواعيد أحلامه مجاراة لتوثب أنوف وطموح موروث، بحيث انتشر بنو قومنا فوق كلّ أرض وتحت كل سماء، وكانوا ساعدا للأوطان التي احتضنتهم ومفخرة الوطن الذي أنجبهم ووفوا للوطنيين إيفاء الشرف والمروءة والأمانة.

    لعلّ تعبير ملحمة الهجرة هو الأكثر دلالة على عراقة الهجرة اللبنانية  العميقة في التاريخ. هذه الملحمة التي تمتد جذورها في التاريخ الحديث الى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، يوم ترك أنطون البشعلاني بلدته الجبلية  صليما الى بيروت، ليهاجر على ظهر سفينة، عام 1854، قاصدا مدينة بوسطن الأميركية، ليكون بذلك أول إنسان من بلاد الشام تطأ قدماه الأرض الجديدة التي اكتشفها كولمبوس عام 1492، وكان الفينقيون قد وصلوا إليها قبله في منتصف الألف الأول ق.م.، وقد سجّل تاريخ الهجرة لهذا المهاجر الأول عصاميته وقوة عزيمته وريادته وفرادته في عالم الهجرة؛ إذ لم يكد ينتقل من بوسطن إلى نيويورك حتى التحق بإحدى كلياتها وتعمّق باللغة الإنكليزية، واتقنها كتابة وخطابة وتدريسا، إلى جانب اللاتينية واليونانية، كما انصرف، بشكل خاص، الى تدريس اللغة العربية وبذلك يكون البشعلاني هذا المهاجر الأول، قد أرسى نهجا جديدا في معنى الإغتراب التثقيفي والتعليمي. ومهّد لملحمة إغترابية من بلادنا إلى العالم ما زالت تداعياته الريادية تتفاعل حتى يومنا هذا. وفي سياق الحديث عن هذا المهاجر الأول، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أنطون الذي تحوّل إسمه إلى أنطونيو،  هو أول من علّم العربية في المغتربات، وأول من دفّن في ولاية نيويورك، وأول من كرمته الولايات المتحدة بوضع لوحة فوق قبره منحوتة عليها طربوش وأسد وأفعى وخروف ترمز إلى أصله وشجاعته وحكمته وبراءته.

    تدفعنا هذه المقدمة، إلى الغوص في أبعاد النظريات المفسّرة بشكل عام للهجرة، وقد حصرها الباحثون في أربع نظريات أساسية، نتطرق إلى الإشارة إليها باختصار كونها تشكّل المدخل لمعالجة تاريخ الهجرة من لبنان واتجاهاتها، والتغيرات الحاصلة في أبعادها في مطلع الألفية الثالثة.

    يجمع الباحثون في دراسة الهجرة على أنّها ظاهرة بشرية، عرفتها الإنسانية، منذ فجر التاريخ الجلي، وهي في حركية دائمة، غير منتظمة ترتبط بعدة عوامل إجتماعية وإقتصادية وأمنية وعنصرية ودينية وبيئية وغيرها، وتنحصر النظريات المفسرة لها، بما يأتي:

أولا: نظرية الجذب والطرد؛ حيث اعتبر بعض الفلاسفة أن الهجرة هي نتاج مجموعة من عوامل الطرد والجذب، في مكان الأصل، كما في مكان الوصول. ولخّص آخرون هذه النظرية في شكل نقاط محدّدة، أصبحت مرجعا ومستندا أساسيا في دراسة أسباب الطرد من البلد المرسل (البلد المهاجر منه)، وعوامل الجذب في البلد المستقبل (البلد المهاجر إليه). وهذه العوامل المشار إليها هي في معظمها تتعلق بالوضع الإقتصادي لبلدي الطرد والجذب. ونظرا لأهميتها في سياق هذه النظرية لا  بدّ من الإشارة إليها.

في ما يخص عوامل الطرد يمكن تلخيصها بالنقاط الخمس الآتية:

  • التدهور في بعض الموارد المحلية، أو إنخفاض أسعارها، أو التدهور في حجم الطلب على سلعة أو خدمة ما يعتمد عليها الأهالي كمصدر إقتصادي رئيسي لهم.
  • البطالة بسبب الركود الإقتصادي أو بسبب مكننة وسائل الإنتاج، وتاليا الإستغناء عن الأيدي العاملة.
  • قلّة أو ندرة الزواج في مكان الأصل.
  • الكوارث الطبيعية أو الحروب وعدم الإستقرار السياسي.
  • الشعور بالإختلاف والتميز عن بقية أفراد المجتمع أو ثقافته.

والجدير بالذكر أيضاً أن عوامل الطرد هذه تواجهها في البلدان المضيفة عوامل جذب تبدو وكأنّها الحل للمعضلة التي أدت إلى الهجرة، وهي:

  • وجود فرص عمل أفضل، خصوصا على صعيدي التعليم والتدريب.
  • وجود بيئة مفضلة أو ظروف معيشية أفضل كالسكن أو الخدمات التعليمية والطبية والمناخية وغيرها.
  • الإنتقال بسبب هجرة المعيل (الأب، الزوج، الأخ ..)
  • المغريات والأنشطة التي تقدمها المدينة وخاصة بالنسبة لسكان الأرياف. هذا، وقد أضاف بعض المتابعين لهذه النظرية عاملا جديدا أطلقوا عليه مصطلح “العوائق الإعتراضية”، التي يواجهها المهاجرون، إضافة إلى سمات المهاجرين وخصائصهم الذاتية.

ثانيا، نظرية “إتخاذ القرار”، يرى أتباع هذه النظرية أنّ عوامل الطرد والجذب، تشمل عامة أعضاء المجتمع بغالبيته، إلا أنها لا ترتبط عمليا، إلا بسلوك أفراد وجماعات يتخذون قرارات الهجرة بأنفسهم وإرادتهم على إعتبار أنها قرارات شخصية ذاتية .ويضيف هؤلاء أنّ هناك أحداثا معينة تدفع المهاجر إلى نقطة إتخاذ القرار، وغالبا ما تكون دون وعيه. وبالتالي فإنّ عملية الهجرة عملية إنتقائية إختيارية، إذ لا يهاجر جميع الناس، والفروق بين من هاجروا ولم يهاجروا ليست جلية واضحة.

وتكمن أهمية هذه النظرية في أنها تحوّل الإهتمام عن مكاني المنشأ والمقصد وما يتعلق بهما من عوامل طرد وجذب إلى المهاجر بذاته وبالقرار الذي يتخذه من أجل هجرته الطوعية.

ثالثا، “نظرية التكلفة والعائد”، تختلف هذه النظرية عن وجهتي النظر السابقتين في أنها تقوم على أساس أنّ المهاجر يتخذ قراره بالهجرة على  ضوء حساب عقلاني لما ستكلفه هذه الهجرة من الناحية الإقتصادية والإجتماعية والنفسية، وما سيكسبه أو سيخسره، وعلى أساس هذا الحساب يتخذ قراره بالهجرة، ومن أهم الدوافع في اتخاذ مثل هذا القرار دراسة التكلفة والعائد الناتجين عن المصاريف الناتجة عن المسافة الفاصلة بين بلدي المنشأ والمقصد، أولا، ثمّ الآثار الإجتماعية والنفسية التي تكون في غالب الأحيان أشدّ إيلاما على سلوكية المهاجر.

رابعا، “نظرية الجاذبية” وتقوم في أساسها على معالجة عامل المسافة بين مكاني الطرد والجذب، باعتبارها عائقا للهجرة، كما توضح هذه النظرية أنّ من أهم العوامل التي تجعل منطقة ما أكثر جاذبية من غيرها إنما تقوم على ما يعرف  بـ “الطريق المضروب” الذي اعتادت عليه أعداد سابقة من المهاجرين من نفس البلد المرسل.

 لقد أضحت الهجرة اللبنانية منذ منتصف القرن الماضي حقلا خصبا للدراسات المهجرية على الصعيد التأريخي والأكاديمي، بل أصبحت نموذجا يعتمد عليه الباحثون والدارسون في وضع الفلسفات الإغترابية وصياغة الخطط الإغترابية ورسم الإستراتيجيات الإغترابية، لما تعبر عنه الهجرة اللبنانية من عراقة في التاريخ، ولما حققته من انتشار عالمي على مدى الجغرافيا الإنسانية، ولما قدمته من إشعاع حضاري وثقافي وعلمي ساهم في نهضة الشعوب وتقدمها.

    اعتبر إخصائيو التحركات السكانية الهجرة اللبنانية مثالا جيدا للتخصص في مجال الهجرة التي أصبحت دراستها تتطلب منهجية خاصة تتلاءم مع تسلسل المراحل التاريخية التي تمرّ بها الهجرة واتجاهاتها والتداعيات الإيجابية والسلبية المترتبة عليها، في بلدي الإرسال والإستقبال.

    يجمع معظم مؤرخي الهجرة اللبنانية على توزيعها في مراحل زمنية رئيسية متعدّدة، تندرج في غالبيتها في الفترات التاريخية التي عرفها الكيان اللبناني، منذ عهد المتصرفية، حتى يومنا هذا، مع التركيز على اتجاهاتها المكانية التي تميزت بها هذه الهجرة التي بدأت في فجرها  تقصد الأماكن البعيدة وراء البحار والمحيطات، حيث حطت طلائعها، في أقاصي المعمورة، في القارة الأميركية شمالا وجنوبا، لتنتشر بعد ذلك في معظم دول هذه القارة الجديدة، ولتتوزع في ما بعد في قارات أفريقيا وأوستراليا وأوروبا وآسيا، لاسيما دول الخليج العربي منها. حتى بات اليوم عدد مغتربي لبنان  يفوق عدد المقيمين فيه. وتحوّل الإغتراب اللبناني إلى ملحمة حقيقية وأمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.

      إنّ الإنتشار اللبناني الكثيف والمميز في العالم غدا حقلا خصبا للباحثين، لما فيه من تنوّع وغنى وفرادة من نوعه. وبات دارسو الإتجاهات العامة للموجات الإغترابية اللبنانية وتطوّرها  ينطلقون في أبحاثهم من توزيع الهجرة في التاريخ الحديث والمعاصر، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحتى اليوم، في مراحل تاريخية تختلف في عددها بين كاتب وآخر، فهي عند البعض ثلاث مراحل رئيسية: هجرات المتصرفية، والإنتداب الفرنسي، وما بعد الإستقلال، وعند البعض الآخر في خمس أو ست مراحل، وفي كتاب “اللبنانيون في العالم- قرن من الهجرة”، لمؤلفيه البرت حوراني ونديم شحاده، تتوزع الهجرة من لبنان في أربع مراحل هي:

المرحلة الأولى: وتمتد من القرن السابع عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، سافر خلالها عدد محدود من اللبنانيين إلى مصر، وإلى أبرز مدن التجارة بين أوروبا والشرق الأدنى، وكانوا في معظمهم من المسيحيين أو تجارا من بيروت وحلب ودمشق.

المرحلة الثانية: وتبدأ من منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين؛ هاجر خلالها عدد غير محدود إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية، رغم محاولة الأمبراطورية العثمانية الحؤول دون سفر رعاياها بسبب حاجتها إلى العناصر الشابة للخدمة في جيشها. وكان معظم المهاجرين من الشباب المسيحي والدرزي من قرى جبلية لبنانية وسورية وفلسطينية. أكثرهم من مستوى إجتماعي وضيع وثقافة محدودة.

المرحلة الثالثة: وتأتي بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وفيها إنغلقت أبواب الولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان الأخرى في وجه الوافدين، لتنفتح في المقابل أبواب أخرى في المستعمرات الأفريقية التي كان يديرها البريطانيون والفرنسيون، والتي كانت تحتاج إلى عناصر شابة جديدة للعمل في مختلف مشاريعها الإستعمارية. كان معظم المهاجرين في هذه المرحلة من الطائفة الشيعية، ومن قرى الجنوب اللبناني، حيث ضاقت بهم محدودية الحالة الإقتصادية ونادتهم فرص العمل المتاحة لهم في البلدان الأفريقية القريبة نسبة إلى القارة الأميركية البعيدة.

المرحلة الرابعة: تزامنت هذه المرحلة مع  نمو الإقتصاد في دول الخليج العربي، في الستينات من القرن الماضي، وإندلاع “الحرب في لبنان” عام 1975؛ فهاجر عدد كبير من اللبنانيين إلى الولايات المتحدة، ملتحقين بأهلهم أو متكلين على كفاءتهم الشخصية. وكانوا هذه المرة من المتعلمين والمثقفين والتقنيين المهرة، ومن جميع الطوائف والمذاهب. وانتعشت في هذه المرحلة حركة الهجرة نحو كندا واستراليا وأميركا اللاتينية وأوروبا الغربية، فيما توجه البعض الآخر نحو الخليج العربي، خصوصا إلى المملكة العربية السعودية، حيث كان النمو الإقتصادي السريع في حاجة إلى طاقات جديدة عاملة من كلّ نوع، لتلبية الوظائف اللممتدة من الحرفية إلى التدريس والتوظيف والطبابة والمقاولة وغيرها.

   ولا بدّ من الملاحظة، هنا، أنّ المراحل الإغترابية، المذكورة أعلاه، وغيرها من التقسيمات التأريخية للهجرة، هي متداخلة بعضها مع البعض الآخر، وهي جزء لا ينفصل من تاريخ وطن ومنطقة، لا يمكن دراستها، إلا من خلال الإحاطة العامة بشمولية هذا التاريخ، في مختلف مناحيه الحضارية، وعلاقاته الخارجية، كما أنّه لا يمكن التركيز على دراسة مرحلة إغترابية مجردة، أو منعزلة عما سبقها، أو تبعها. في المقابل فقد شهد لبنان منعطفا جديدا في مسيرة الهجرة منه ويتركز هذا المنعطف في ما اصطلح على تسميته بـ “هجرة الأدمغة”، التي ينطوي تحت عنوانها مجموعة كبيرة من الكفايات، التي تشمل المهارات والمؤسسات والعمالة والأموال والتراث والأصول. وتحتل الأدمغة المرتبة الأولى في هذه الهجرة وتشمل الكفايات العقلية والعلمية والإبداعية والفكرية والفنية، والتي تشكّل مجتمعة ثروة وطنية هائلة، وموردا نادرا لا ينضب. وباختصار يندرج في لائحة “هجرة الأدمغة”: هجرة العقول المتخصصة، وحملة الكفاءات والشهادات الجامعية والمواهب والمؤهلات كالأطباء والمهندسين والعلماء ورجال الأعمال والإقتصاد والخبراء الفنيين واليد العاملة الماهرة، والتي تشكّل مجتمعة العامل الرئيسي في موضوع البحث العلمي وغايته التي هي إنماء المجتمع وإعماره وتشييد حضارته وتأمين مستقبله في التقدم  والإزدهار والرقي.

     يعتبر لبنان، بالرغم من قلّة عدد سكانه، من الدول الرئيسية المصدرة للكفاءات، التي تشكّل مصدر القلق الرئيسي لواقعه ومستقبله، إن كان من حيث التكاليف الباهظة التي تتكبده هذه الدولة الفقيرة في تعليم أبنائها، أو من حيث السرقة المنظمة الممنهجة لمواردها المعرفية، التي تقوم بها، دون رادع، الدول الكبرى المستوردة لهذه الأدمغة، وذلك عبر التسهيلات والإغراءات التي تقدمها لإجتذاب أصحاب الخبرات والعلماء الراغبين بتحسين أوضاعهم، مما يحرم هذا البلد من خيرة طاقاته الإنتاجية، في الوقت الذي تهدّه فيه الأخطار الداخلية والخارجية، من نزاعات طائفية ومذهبية، ومحنة سياسية أصبحت متجذرة في صميم هذا الكيان، إلى الخطر الإسرائيلي الذي يهدد وجوده ومصيره، ويطمع بضمه إلى دولة “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات.  

    إنّ معاناة لبنان مع هجرة الأدمغة ليست جديدة، فهي تمتد، بشكل ملحوظ إلى مطلع السبعنات من القرن الماضي، إلا أنّها تفاقمت وتحوّلت إلى أزمة وطنية، في مطلع الألفية الثالثة، وقد تناولها الخبراء والإخصائيون والإعلام بكثير من الإهتمام والجدية، وقد راجت التعابير المنبهة لخطرها على مستقبل لبنان ووجوده: “لبنان ينزف هجرة وقد بلغت الخطّ الأحمر، 65 ألفا يهاجرون سنويا، يشكّل الشباب 80 بالمئة من هؤلاء، وبلغت نسبة الهجرة في قطاع التكنولوجيا والإتصالات 70 بالمئة، وهجرة الأدمغة تهدّد بتفريغ لبنان من شبابه، الهجرة تستنزف المجتمع، والجامعيون أول الراغبين، يتخرجون من الجامعات إلى بلاد الله الواسعة..” وتدلّ أحدث الإحصاءات  إلى هجرة 16 ألف لبناني شهريا، يقابله ولادة 8 ألاف شهريا، وتتوقع هذه الإحصاءات، أن يتحوّل لبنان، في المدى المنظور، إلى مجتمع هرم، وأن يفرغ من سكانه خلال ثلاثين عاما.

    والسؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذه المشكلة الوطنية، كيف نحافط على كفاءاتنا ونستقطبها، وكيف نحدّ من هجرتها؟

     لا بدّ من الإشارة أولا إلى أنّ معظم دول العالم العربي تعاني منذ زمن من هجرة الأدمغة، وقد شارك لبنان في معظم الندوات التي عقدت لدراسة هذه الهجرة وتداعياتها على أوضاع البلدان التي تعاني منها، كما كان لوزارة المغتربين في لبنان دورا مميزا في معالجة هذه المشكلة واقتراح الحلول المناسبة للحدّ من تفاقمها.

    فعلى سبيل المثال، في هذا السياق، فقد شدّدت ندوة “هجرة العقول العربية”، المنعقدة في القاهرة، في 20 كانون الأول 1996 على العمل للمحافظة على الكفاءات العالية وحمايتها،ورعايتها، وذلك من خلال مجموعة من التوصيات، من أهمها:

  • دعم أنشطة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، سعيا إلى إقامة قواعد علمية وتكنولوجية عربية قوية، عبر مشروعات وطنية وقومية وجبهوية كبرى، تشكّل قوة جاذبة للكفاءات داخل أوطانها.
  • توفير المقومات اللازمة لتشجيع الأدمغة لبذل جهودها داخل موطنها، من خلال توفير العوائد والدخل المربح وظروف العمل الملائمة، وإقامة التجهيزات المناسبة للبحوث العلمية.
  • دعم المناخ الفكري والثقافي والسياسي المشجع للعطاء والإبداع للكفاءات.
  • تشجيع حرية تنقل الكفاءات بين الأقطار العربية، وتوفير سبل إطلاعها على أحدث مستجدات المعرفة العلمية والتكنولوجية.

  وقبل أسبوع من ندوة القاهرة، كانت وزارة المغتربين في لبنان قد أقامت ندوة في الجامعة الأميركية في بيروت، تحت عنوان :”هجرة الكفاءات اللبنانية المهاجرة”، شارك فيها عدد من الإخصائيين، وتمّ توثيقها في كتاب خاص، وصدرت عنها مجموعة من التوصيات تحت العناوين الآتية:

  • عودة الكفاءات في ضوء سياسة الدولة في الإنماء والإعمار.
  • تأمين فرص العمل لعودة الكفاءات.
  • الإصلاح الإداري وعودة الكفاءات.

كما أقامت وزارة المغتربين ورشة عمل في قصر الإونيسكو في بيروت في نهاية العام 2007، تحت عنوان: “الهجرة كعائق للتنمية الإجتماعية والإقتصادية وهجرة الأدمغة”، وقد جرى توثيق هذه الورشة في مجلة “المغترب اللبناني”، العدد 10، تاريخ كانون الأول 2007.

    لم يغب لبنان عن وضع المشاريع الهادفة للتعاطي مع هجرة الأدمغة والحدّ منها والإفادة من طاقاتها، ومن أبرز هذه المشاريع:

  • مشروع “توكتن لبنان”، وقد انطلق هذا البرنامج عام 1994، بمبادرة من مجلس الإنماء والإعمار بهدف تجنب التأثيرات الناتجة عن هجرة الأدمغة ، من خلال إعادة هذه المواهب إلى الوطن الأم، لتساعد في خبراتها الإدارات العامة والمؤسسات الأهلية لتلبي حاجاتها بالمساعدة المجانية من قبل خبراء مقيمين في الخارج.
  • مشروع لبنان مستشفى المشرق العربي الذي يقوم على إنشاء مستشفى في لبنان متخصص في الجراحة الثقيلة على ان تشكل الهيئة الطبية فيه من الأطباء والجراحين اللبنانيين المقيمين في الولايات المتحدة وتشمل أنشطته منطقة المشرق العربي خصوصا المنطقة النفطية.
  • مشروع شبكة الحاضرات البحثية، ومن أبرز أهدافه أصحاب الطاقات الجامعية والتكنولوجية والعلمية العربية المقيمة والمغتربة وحثها على البحث العلمي والإبداع من خلال مشروع إنمائي تقني وإقتصادي والعمل على الحدّ من موجة هجرة الأدمغة، وتأمين المناخ الملائم لعودة من هاجر، وإيجاد فرص عمل مستحدثة. وتشجيع الإبتكارات التكنولوجية والعلمية وتنمية النشاطات في مجالات التقنيات المتقدمة على أنواعها.
  • دعم البحوث العلمية من خلال “المجلس الوطني للبحوث العلمية”.
  • مشروع “نادي العولمة” ، وترعاه مؤسسة براين باور، التي تأسست في العام 1981، بهدف إستعادة الدماغ اللبناني المهاجر، إضافة إلى تأهيل الكوادر اللبنانية لتصل إلى المستويات العالمية . وقد نجحت هذه المؤسسة في مدى عشرين عاما على استعادة ما يزيد على 5000 دماغ لبناني.
  • المجموعة العالمية للإستثمار والتنمية، وهي مجموعة استثمارية مستقلة، مركزها بيروت، وغايتها حشد الأموال وتوجيه الإستثمارات باتجاه تنفيذ ودعم المشاريع التنموية، للمساهمة في نهضة المجتمعات العربية، ودخول إقتصادها في عصر المعرفة. ومن بين أبرز أهدافها: تفعيل التواصل مع العقول والمؤسسات العربية ، والإستفادة من خبراتها في عمليات النهوض والتغيير في المنطقة.

كان لا بدّ للبنان، وهو صاحب الرصيد الكبير في إنتشار أبنائه، خصوصا النوعي منهم، أن يتعاطى مع هجرة الأدمغة، من خلال هذه المشاريع المتقدمة، لاسيما أنّ العالم يدخل عتبة الألفية الثالثة، وقد اتخذت معظم دوله المواقف والقوانين التي تضيق على المهاجرين دخول أراضيها والعمل فيها، خصوصا بعد أحداث 11 أيلول، التي أجهضت بسببها كل حقوق المهاجرين التي نصت عليها المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على: ” حقّ أيّ شخص في إختيار مكان إقامته وحرية التنقل داخل أي بلد يشاء .. ومغادرة أي بلد والعودة إلى بلده الأصلي “. وحلّت مكان هذه المادة القوانين العنصرية الجائرة التي انتهكت حقوق المهاجرين بشكل مفضوح لم يسبق له مثيل، وقد تصدرت الدول الأوروبية التي تدعي الحرية والعدالة والمساواة هذه الموجة في إنتهاك حرية المهاجرين، وقد تبلوّر ذلك في سلسلة القوانين التي اتخذتها بعض حكومات الدول الأوروبية، خصوصا فرنسا، إلمانيا، بلجيكا، هولندا وبريطانيا وغيرها. ولم تغب، بالطبع، عن هذه الحالة الشاذة الولايات المتحدة وأوستراليا.

   إنّ لبنان الذي يعاني نزيفا حقيقيا في هجرة الأدمغة منه، هذا النزيف الذي تفاقم بعد مطلع الألفية الثالثة، لا بدّ للمعنيين في الشأن الإغترابي فيه من مؤسسات رسمية ومدنية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية والمغتربن والجامعة اللبنانية الثقافية في العالم أن تسارع إلى معالجة هذه المشكلة، من منظار وطني يقوم على اصلاح المؤسسات الرسمية، ومحاربة الفساد، وتأمين فرص عمل مناسبة لخريجي الجامعات، والعمل الجاد في انشاء مراكز البحث العلمي، والحد من هجرة اصحاب الكفاءات، والاهتمام باستعادة من هاجر منهم، وذلك من خلال:

  1.  اعتبار الأدمغة اللبنانية المهاجرة ملكية فكرية للبنان.
  2. 2-    درس حراك الموارد البشرية.
  3. تحديث القوانين واصلاح المؤسسات الرسمية.
  4. 4-    اعادة النظر بالنظام التربوي لجهة المواءمة بين الأكاديمي والتقني.
  5. 5-    العمل على تشجيع البحث العلمي ووضع الموازنات المناسبة لذلك.

  لقد أثبت التاريخ أن المجتمعات الراقية القوية تقوم على أساس المعرفة والعلم، فالمجتمع معرفة والمعرفة قوة وبناء الاوطان يكون بهذه القوة.

الفصل الثالث

الأدب والصحافة في بلاد الإغتراب وتأثيرهما في المجتمعات المتقابلة

 مقدمة عن الأدب المهجري

     كان للبيئة المهجرية في الأميركيتين  فضل كبير على أدبنا المهجري، إذ وفرت أجواء الحرية في الأميركيتين مناخات ملائمة لأدبائنا الكبار، الذين هاجروا في مطلع القرن العشرين، ليؤكدوا على تفوقهم في عالم اللغة العربية ونشر تراثها، في مجتمع غريب عن هذه اللغة وأصولها،التي كانت تعتبر لغة خاصة بالعالم العربي، لا يمكن أن تتغرب، وتجد لها التربة الخصبة في أرض بعيدة، وفي ثقافة مغايرة لها. لقد تبلورت النهضة الأدبية العربية في مغتربات شمال القارة وجنوبها، من خلال تجمع الأدباء والمثقفين في جمعيات فكرية أدبية، كان في طليعتها “الرابطة القلمية” في الولايات المتحدة الأميركية، و”العصبة الأندلسية” في البرازيل.

PenBond

أ – الرابطة القلمية

Text Box: من اليمين: ميخائيل نعيمة، عبدالمسيح حداد، جبران خليل جبران، نسيب عريضة

   أسسها في العام 1920 مجموعة من الأدباء الكبار وهم : رشيد أيوب، وليم كاتسنليس، عبد المسيح حداد، وديع باحوط، والياس عطالله. وكان مقرها الرئيسي في العاصمة الأميركية نيويورك، ونصت غايتها على “تجديد الصلة بين الأدب والحياة”، وإقامة مقاييس جديدة في الأدب، وتوسيع آفاق إنتاجه في المقال والقصة والملحمة والنقد. ترأس جبران خليل جبران هذه الرابطة، ورسم شعارها، ونقش تحته هذه العبارة: “لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء”.

Description: Amin al-Rihani.jpg
Text Box: أمين الريحاني

     حقّق أعضاء الرابطة، في سنواتها الأولى، نجاحا باهرا، على صعيد كثافة الإنتاج الأدبي الذي صدر عنهم ونشروه على صفحات الصحف التي أصدروها، ولاسيما في صحيفتي “الفنون” لصاحبها نسيب عريضة، و”السائح” لمؤسّسها عبد المسيح حدّاد. ولم ينحصر إنتاج هذه الرابطة في البيئة الحاضنة لها بل امتدّ تأثيرها إلى مختلف المهاجر الأميركية، ومن ثمّ  إلى دول العالم العربي. وانتقل أدب جبران خليل جبران إلى العالمية من خلال كتابه “النبي” الذي ترجم إلى عدّة لغات. كما وضع جبران بعد ذلك كتابه “العواصف” باللغة العربية، إلى جانب ثمانية كتب بالإنكليزية. إلا أياً من أدباء الرابطة لم ينشر  إنتاجه العربي باللغة الإنكليزية، باستثناء أمين الريحاني الذي كتب “أنشودة المتصوفين” عام 1921 بالإنكليزية. أما مخائيل نعيمه، الذي تردّد اسمه على لائحة جائزة نوبل، فقد نشر شعره في جريدة النيويورك تايمز، إلا أنه لم ينشر الترجمة الإنكليزية لرائعته “همس الجفون” إلا في العام 1943.  

Text Box: جبران خليل جبران
Description: Related image

       انفرط عقد “الرابطة القلمية”، بعد عشر سنوات على تأسيسها، وتفرّق أدباؤها، وذلك بعد وفاة عميدها ورائدها الفيلسوف جبران خليل جبران في العام 1931، وبعد أن تركت وراءها تراثا أدبيا غنيا في اللغة العربية،  لم تقتصر مفاعيله على المهاجر فقط، بل امتدت إلى الوطن حيث الإنتداب الفرنسي والإنكليزي قد نكّل بالمفكرين وهجرهم، وهمّش اللغة العربية ودفعها إلى المرتبة الثانية بعد لغته الأجنبية، التي جعلها اللغة الرسمية الأولى، خصوصا في الدوائر الرسمية والمؤسسات التربوية والمعاملات الخارجية.

ب – العصبة الأندلسية

Text Box: رشيد سليم الخوري
Description: رشيد سليم الخوري
Text Box: نظير زيتون
Description: Image result for ‫نظير زيتون‬‎

     بعد عامين على غياب الرابطة القلمية في الشمال الأميركي، ظهرت في جنوبها جمعية أدبية جديدة، أطلق عليها مؤسسوها، إسم “العصبة الأندلسية”، تيمناً بالعصر العربي الزاهر الذي عرفه الأندلس في مملكة غرناطة الإسبانية بين عامي 1236و 1492. أمّا مؤسسوا هذه العصبة فكانوا خمسة عشرة من كبار الأدباء العرب الذين هاجروا قسرا إلى البرازيل، لأنهم رفضوا الخضوع للإنتداب والتنازل عن أفكارهم التحررية، والأدباء هم: ميشال معلوف، نظير زيتون، حسني غراب، شكرالله الجرّ،  نصر سمعان، حبيب مسعود، إسكندر كرباج، داوود شكور، يوسف غانم، أنطون سعد، يوسف البعيني، عقل الجرّ، رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)، جورج حسون المعلوف، وشفيق المعلوف.

  إتخذت هذه العصبة ساو باولو مقراً لها، وحدّدت قانونها بالمبادئ العشر التالية:

  1.  جمع أدباء العربية في العربية وتآخيهم،
  2.  تعزيز الأدب العربي في المهجر،
  3.  تأسيس منتدى أدبي صرف،
  4.  إصدار مجلة تنطق بلسان العصبة الأندلسية،
  5.  إيجاد الصلات القلمية وتوثيق رابطة الولاء بين العصبة وسائر أندية اللغة العربية،
  6.  التذرع بكل وسائل الأدب والعلم إلى رفع مستوى العقلية العربية،
  7.  مكافحة التعصب وتمحيص العقائد،
  8.  نقد التقاليد التي تنافي روح العصر وتؤدي إلى الجمود الفكري،
  9.  إبعاد اية صبغة سياسية أو دينية أو إقليمية عن هذه المؤسسة الأدبية،
  10. إطلاع العالم العربي عن طريق المجلة على بدائع الفكرالعربي، ولاسيما البرازيلي منه.

 إستعملت العصبة  في البداية مجلة “الأندلس الجديدة”، التي كان يصدرها ميشال كرم منبرا لنشر أفكار أعضائها وأفكارهم، وفي العام 1935، أصدرت العصبة مجلة شهرية خاصة بها، أسمتها “العصبة”، تولى حبيب مسعود رئاسة تحريرها، وقد جمعت أعدادها في 13 مجلدا ضخما. وكانت هذه المجلة منبرا حرا، ومجالا واسعا لعرض مختلف الأفكار والأراء على تنوعها واختلافاتها ونزعاتها المختلفة. والملاحظ في مواد هذه المجلة التنوّع الفكري، فقد كان لكل عضو من أعضائها أفكاره وأراءه وميوله ومذهبه الفكري، وهذا ما كان غائبا عن “الرابطة القلمية” المتماسكة في عقيدتها وتوجهاتها الفكرية.

   لقد تركت “العصبة الأندلسية” تراثا فكريا أغنى اللغة العربية، فإلى جانب مجلدات مجلة “العصبة”، أصدرت هذه العصبة مجموعة من المؤلفات والدواوين الشعرية لأدباء العرب في المهجر البرازيلي، من بينها:

ديوان “عبقر” لشفيق المعلوف، قصيدة “الروافد” و “زنابق الفجر” لشكرالله الجر، و “نداء المجاذيف” لميشال كرم، و “أحلام الراعي” للياس فرحات، و”ديوان القروي” لرشيد سليم الخوري، و”أقاصيص” لجورج حسون المعلوف. كما قامت العصبة بتكريم عدد من أدباء العرب اللامعين، ومن بينهم الحفلة الكبرى التي أقيمت تكريما للذكرى الألفية لـ المتنبي عام 1965.

    لقد ولّد الأدباء المهجريون في تلك الحقبة التاريخية، أدبا متفوقا، أغنى اللغة العربية، وإن اختلف آراء النقاد في الموقف منه، فإنّ أدباء المهجر استمدوا إلهامهم بالدرجة الأولى من تأملاتهم في الحياة، ومن حسهم وتفكيرهم ومعاناتهم، والتصاقهم فكرا وعاطفة بأوطانهم الأصلية، بعيدون بالروح عن المجتمع الأميركي وثقافته، لا يهتمون بآدابه وصحافته وأخباره، مثل إهتمامهم بأدب أوطانهم وصحافتها وأخبارها. لقد كانت تلك الجمعيات الأدبية واحات وطنية في صحراء الغربة القاتلة، تحافظ على لغة الضاد، وآدابها، وسط مجتمعات وثقافات ولغات حيّة تجرف بقوتها المادية والمعنوية كلّ جماعة طارئة وثقافة مستوردة ولغة غريبة.

     لم تكن الجمعيات الأدبية الوسيلة الوحيدة التي استخدمها الأدباء المهاجرون لبث نشاطهم الفكري في عالم الإغتراب، إذ عمدوا إلى إنشاء الصحف والمجلات باللغة العربية، ويصح القول إنّ القرن التاسع عشر كان قرن الصحافة في البرازيل، فانتشرت عشرات الصحف في الولايات الرئيسية في ريو دي جانيرو، وسان باولو، وبورتواليغري، وبيللو اورزنتي، وكمبيناس وسانتوس، وكمبوس، وسلطو اورنتال، ونيتروي، واوليفيرا وبوا.

ويبين الجدول التالي: أسماء الجرائد ومنشئيها وتاريخ صدورها:

21849268_10159383957425451_1256264104_n
  • في ريو دي جانيرو “Rio de Janeiro”
21903840_10159383938910451_739370304_n
إسم الجريدة إسم منشئها تاريخ صدورها
الرقيب أسعد خالد و نعوم لبكي 17كانون أول 1896
الصواب حبيب خوري ومخايل مراد 1 كانون ثان 1900
العدل شكري جرجس أنطون 5تشرين ثان 1901
الشبيبة السورية جمعية الشبان السوريين 5 تشرين ثان 1903
الحرية بطرس حنا جعاره ويوسف بدوي 1 أيلول 1908
البريد يوسف ناصيف ضاهر 15 آيار 1909
الشدياق جورج شدياق 1 نيسان 1910
الغربال جورج شدياق 11 شباط 1911
الفجر ناصر شاتيلا 1912
المنطاد   زوين يوسف زوين 3 تموز 1912
الحمراء الياس طعمه 15 نيسان 1913
الأخبارالإجتماعية والأدبية الشيخ رشيد عطيه نيسان 1913
فتى الشرق عبده فارس أبو راشد 26 نيسان 1914
أرزة لبنان يوسف أسعد الحتي 16 تشرين ثان 916
سوق عكاظ جورج شدياق 1916
سوريا الجديدة حبيب حنون 1 تشرين أول 1918
حمارة بلدنا يوسف ناصيف جرجس 23 شباط 1919
التساهل جورج شدياق 1919
الماشطة جورج شدياق 1919
سائق الحمارة جورج شدياق 22 نيسان 1919
الكلمة الحرّة حبيب بمبينو 17 حزيران 1919
الإخلاص جورج دده 20 آب 1918
العاصمة منير لبابيدي 1919
الهراوة الصفراء جورج حبيب صيداوي 26 كانون أول 1919
المبرد جورج حبيب صيداوي 1920
الميماس جورج قصاص وشكور 1 كانون ثان 1920
لبنان الكبير يوسف ناصيف تشرين ثان 1920
الإستقلال محمد زينو 16 تشرين ثان 1921
أرزة لبنان جمعية أرزة لبنان 1 تشرين ثان 1922
النهضة حبيب حنون كانون أول 1922
النجوم الياس أبو ناضر كانون ثان 1922
النتيجة حبيب حنون 1924
الأرزة جمعية أرزة لبنان 1926
النحلة حبيب حنون 1928
الحقيقة الياس عبدالله خوري 7 حزيران 1933
الرعد نخله عبدالله خوري آذار 1936
الرابطة العربية طاهر الهاشمي 1934
الأحرار حبيب بشعلاني 1935
الجحيم ميشال جرجس خوري 1936
الروضة ميشال جرجس خوري 1936
بريد الشرق نخلة عبدالله خوري أيلول 1946
الأخبار جوان جبور 1950
           في ساو باولو “São Paulo”          
الأصمعي خليل ملوك وشكري خوري 12 نيسان 1898
المناظر نعوم لبكي ووفارس سمعان نجم 9 شباط 1899
خلايا النحل نعوم لبكي 15 تموز 1901
المنارة الجمعية الخيرية المارونية 14 أيلول 1901
الرموز رشيد الخوري أيلول 1902
الأفكار د. سعيد أبو جمره 24 كانون ثان 1903
البرازيل قيصر معلوف 1903
أبو الهول شكري خوري أول آيار 1906
بشرّاي خليل يوسف سعد تشرين أول 1906
الميزان إسطفان غليوني 1908
الحديقة قيس لبكي 28 كانون ثان 1909
الوطن ابراهيم والياس فرح 1910
الجديد نجيب طراد وفارس نجم 2 كانون أول 1911
الأمازون فارس دبغي 17 تشرين اول 1912
الفرائد ابراهيم شحاده فرح 10 كانون ثان 1913
القلم الحديدي جورج حداد 15 حزيران 1913
أميركا إسكندر شاهين 18 تشرين أول1913
المقرعة سليم لبكي 11 شباط 1914
فتى لبنان رشيد عطيه 14 تموز 1914
النهضة اللبنانية جمعية النهضة اللبنانية 21 تموز 1914
البرازيل جورج نقولا مسرّة 10آذار 1915
العثماني قيس لبكي 1915
الزهراوي جورج مخايل أطلس 14 أيلول 1916
النحلة داوود جرجس خوري تشرين ثان 1916
المؤدب نجيب قسطنطين حداد 1917
الصاعقة مخايل دحروج 1 أيلول 1917
النهضة جمعية النهضة اللبنانية 16 نيسان1918
الإكرام لجنة إكرام السوريين للبرازيل 15 حزيران 1918
الرائد نجيب قسطنطين حداد 15 نيسان 1919
الإتحاد العربي جورج مخايل أطلس 23 آب 1919
النجمة السورية نجيب عزيز صفدي 27 اب 1919
الجريدة د. خليل سعاده آب 1920
المهجر عبد الكريم خوري و عيسى شكور 1920
السياسة سليم شديد عقل 22كانون ثان 1921
الجالية سامي يواكيم الراسي 26 حزيران 1922
سوريا الياس مسرة 1 تشرين أول 1922
الوطن الحرّ الحزب الوطني السوري 1923
سان باولو نبيه زعني ويوسف فريحه 1923
السهام راجي أبو جمرة وجورج يارد 1927
الدليل توفيق ضعون 1 نيسان 1928
الطبيعة أنطون حنا سعاده 1928
الرابطة الرابطة الوطنية السورية 1 كانون ثان 1929
الجعبة بطرس زغبي 1929
الزهور صالح يوسف صليبي كانون ثان 1932
النشرة الجمعية الإسلامية 15آيار 1933
لبنان نجيب حنكش 1934
الإتحاد إتحاد الشبيبة العربية 1935
الحرية رشاء محمود خزندار 1935
برازيل – لبنان الشيخ رشيد عطيه آب 1946
البرازيل المصورة جورج مسرة 1936
سورية الجديدة الحزب السوري القومي الإجتماعي 1950
الحارس أمين الغريب 1951
البركان إبراهيم عطيه 1953
في ميناوس    
السهام جورج إسحق يارد 4 كانون أول 1912
أبو النواس جورج إسحق يارد 1915
المراقب هنري ضو 20 كانون أول 1920
الأمازون أمين ضوميط 1917
  ج- في بورتو اليغري “Porto Alegre”
الفوائد سليمان زغبي نيسان 1909
الصياد يوسف خوري محفوظ 1913
الرقيب الياس طربيه ويوسف نحاس 15 كانون أول 1917
  د- في بيلو هوريزنتي “Belo Horizonte”
الصواب مخايل مراد 1 آب 1900
الإستقلال الجمعية العربية 1910
  هـ – في كامبيناس “Campinas”
الفيحاء سليم ودعيبس بالش 28 تشرين أول 1894
  و- في سانتوس “Santos”
البرازيل سليم بالش وأنطون نجار 2 نيسان 1896
  ز – في كامبوس “Campos”
الفجر جورج حداد وناصر شاتيلا 1 تشرين أول1911
  ح – في سلطو اورنتال “Salto Oriental”
أمنية العرب نجيب يوسف عازوري 15 تشرين أول 1913
  ط- في نيتيروي Niterói” 
لبنان الكبير نعمان العندرافيلي 1 أيلول 1921
  ي- في أوليفيرا “Oliveira”
الإصلاح سعيد مطر ونجيب عسراوي نيسان 1921
     
  ك- في بوا “Poá Brézil”
  الخربر   عباس طربيه   1921

   وكان للمطابع العربية التي استقدمت حروفها من خارج البلاد دورا أساسيا في إزدهار واتساع حركة طباعة الصحف وتوزيعها، ومن أهم هذه المطابع: مطبعة الفنون التي أسسها مخايل ملوحي من حمص،عام 1922. ومطبعة الفيحاء التي أنشأها سابا طيسون من طرابلس، عام 1926. ومطبعة دار الطباعة والنشر لأصحابها فؤاد وتوفيق وجورج وإميل بندقي، عام 1937. ومطبعة صفدي التي أسسها عام 1947 جميل صفدي من زحلة. ومطابع جرائد الحقيقة والأخبار وبريد الشرق، والسلام والمرسل والجريدة السورية اللبنانية والإتحاد اللبناني وصدى الشرق.

     لم يقتصر الإزدهار الأدبي العربي في أميركا الجنوبية على البرازيل، فقط، بل شهدت الأرجنتين نهضة أدبية عربية تماثل إلى حدّ ما المهجر  البرازيلي. حيث ظهر في الأرجنتين عدد من الأدباء والمفكرين ومؤسسي الجمعيات والصحف والمطابع. وعرفت الأرجنتين كما “الرابطة القلمية” في نيويورك، و”العصبة الأندلسية” في ساو باولو، عرفت تأسيس “عصبة الزجل اللبناني” ومركزها العاصمة بونس أيرس.

    وبرز من الأسماء الأدبية  في الأرجنتين:  المير أمين إرسلان، ويوسف غريب مترجم كتاب النبي لجبران خليل وجرجي عوض وخليل سعاده وابنه الزعيم أنطون سعاده وأنطوني عرموني. أما في الشعر فقد تجمّع نخبة من شعراء المهجر في الأرجنتين في “عصبة الزجل اللبناني” التي ترأسها الشاعر نعيم رستم، وكان من أبرز أعضائها الشعراء: توفيق جبور، سليم داوود، الياس عبده، سعيد زيدان، إبراهيم عبود، سعيد نخله، وخوليو مارون وعبدالله فاغولي وحليم ناصيف وخوسيه خلاط وفريد عبدالله وغبريال  طرابلسي.

     وكما في البرازيل، فقد انصرف أبناء الجالية في الأرجنتين إلى تأسيس الصحف والمجلات في مختلف الولايات الأرجنتينية، فظهرت طلائع هذه الصحف وهي “صدى الجنوب” عام 1898، لمؤسسها حنا سعيد، ليتوالى بعدها ظهور عشرات المطبوعات بين عامي 1906 و1926، للتوقف جميعا، باستثناء صحيفة الوطن، التي أسسها عبد اللطيف اليونس، ليبيعها بعد عودته إلى دمشق إلى شخص من أصل أرمني مولود في فلسطين واسمه بطرس تشككيان. والجدول التالي يبين أسماء الصحف وتاريخ ومكان صدورها واسم صاحبها.

في بوينس آيرس “Buenos Aires”
صدى الجنوب حنا سعيد عام 1898
الصاعقة حنا سعيد 1898
الصبح شكري الخوري وخليل ساحول 1899
السلام وديع شمعون وبولس نحاس 1902
الزمان مخايل سمرا 1905
الحقائق ملحم فارس 1905
الجالية نقولا مسرّة 1910
القرن العشرون لبيب رياشي 1911
الحاوي يوسف شعيا 1912
جرب الحاوي سمعان منصور 1913
المرسل البعثة الدينية المارونية 1913
النسر سمعان منصور 1913
العلم العثماني سيف  الدين رحال 1915
في قــرطــبــة  “Córdoba”
الحكيم حكيم عزيزي 1908
قرطبة رزقي شبلي 1922
العصر الجديد قبلان رياشي 1926
الحقيقة قبلان رياشي 1926
     
     
في سانتياغو ديل إستيرو “Santiago del Estero”
المرشد بولس الخوري 1912
المنبر يوسف مسعد 1916
الشبيبة جميل شوشي 1918
الهادي انطوان  جمال 1929
الفلك شكيب بدر 1930
  في تــوكــمــان “Tucumán”
سوريا الفتاة الياس طربيه وسمعان حواتي 1914
الأرجنتين سليم اسماعيل 1915
الشمس إسبر الغريب 1915
الإتحاد اللبناني جمعية الإتحاد اللبناني 1915
الصاعقة سليمان أبوشر 1916
الكاوي جميل واكديان 1916
التحالف اللبناني جمعية التحالف اللبناني 1919
الجامعة السورية حسني عبد الملك 1919
يقظة العرب جورج عساف 1919
الشرق سيف الدين رحال 1921
النشرة الإقتصادية يعقوب غطاس 1922
الفطرة محمود محمد سليم 1926
لبنان يوسف خوري ومخايل ابو زيدان 1926
الإستقلال أمين إرسلان 1926
السعادة يوسف نعيم رشماني 1926
المنبر  رشيد زين 1927
الجريدة السورية اللبنانية موسى يوسف عزيزة 1929
المنتقد أبو حداد 1929
المختصر جبران مسوح 1929
العرب محمد حواش 1930
العلم العربي عبد اللطيف الخشن 1934
الشباب علي جابر 1936
الزوبعة جبران مسوح 1939
الدفاع رافايل لحود 1940
الرفيق محمد حيدر ومحمد كمال 1945
الوطن مخايل هالة ويوسف خويري 1915
صدى الشرق نجيب بعقلاني 1917
حط بالخرج يوسف نعيم رشماني 1918
الإخاء جبران مسوح 1922
الشبيبة المتحدة جمعية الشبيبة المتحدة 1923
المهجر يوسف نعيم رشماني 1926

كانت هذه الصحف والمجلات تطبع في مطابع بالحرف العربي، أسسها أصحابها في الولايات الرئيسية التالية:  بيونس أيرس، توكمان وقرطبة، وهذه المطابع هي:

مطبعة جريدة السلام، تأسست عام 1902، ومطبعة جريدة المرسل 1913، ومطبعة جريدة الإتحاد اللبناني، ومطبعة جريدة صدى الشرق 1917، ومطبعة الجريدة السورية – اللبنانية 1929 والمطبعة السورية اللبنانية عام 1932.

لم يكتف الأدباء المغتربون في الأرجنتين بالصحافة المكتوبة لنشر أفكارهم والتواصل مع الجاليات الأخرى والوطن، بل عمدوا إلى فتح المحطات الإذاعية التالية التي تبث باللغة العربية: إذاعة ساعة الكانو، وإذاعة صوت الصحراء، وإذاعة الصوت العربي، ومحطة الوطن العربي، ومحطة الجريدة السورية- اللبنانية.

       واستكمالاً لهذا البحث، لا بدّ لنا من التوقف، عند “الهجرة اللبنانية” المبكرة لمصر التي حضنت العديد من “الشخصيات اللبنانية” التي هربت من لبنان نتيجة الظلم العثماني الذي كبت الحريات ونكّل بالمفكرين  وعلّق المشانق للثائرين على الإستبداد. ولأنّ مصر في تلك الفترة كانت ترزح تحت الإستعمار البريطاني، وتشهد استقرارا داخليا، وتنعم بحرية فكرية، فقد جذبت الأحرار والمفكرين من بلاد الشام عموما، ومن جبل لبنان خصوصا، فأسسوا الصحف والمجلات، وأنشأوا الجمعيات السياسية، والثقافية والحزبية، وفتحوا الصالونات الأدبية وشاركوا المصريين في إعداد المشاريع الإصلاحية، وناضلوا إلى جانبهم، من أجل الحرية، وبعث النهضة القومية المصرية، التي نعمت بها مصر، وأدّت في منتصف القرن الماضي إلى استقلالها وحريتها وسيادتها. أضف إلى ذلك أنّ أرض الرافدين التي حضنت طلائع الهجرة اللبنانية ، كانت العتبة التي إنطلق منها المهاجرون من بلاد الشام نحو الغرب والقارة الجديدة .

وما زالت مصر حتى اليوم تنعم بالمؤسسات الإعلامية والتراث الأدبي الذي خلّفه مهاجرو بلاد الأرز، ونبدأ بإلقاء نظرة على الصحف والمجلات التي أصدرها اللبنانيون في مصر:

     جريدة الأهرام: أسسها الأخوان تقلا في العام 1875، وما لبثت أن تحوّلت إلى أم لمجموعة من الإصدارات الصحفية، ومنها “صدى الأهرام”، و”الأهرام الأسبوعي”، و”الوقت”، و”الأحوال”. وعلى صفحات “الأهرام” لمعت أسماء أدبية لبنانية مهاجرة إلى مصر، من بينها: بشارة وجبرايل وبيتسي تقلا، وخليل زينية، وداود بركات، وأنطوان الجميل، وعزيز ميرزا، ونجيب كنعان، وأسعد داغر، والعلامة خليل سعاده.  

     جريدة الهلال: أسسها جرجي زيدان عام 1892، وأصدرت حوالي عشر مجلات أسبوعية، أهمها: الدنيا، الأبطال، روايات الهلال الشهرية، كتاب الهلال الشهري والمرأة. وتعتبر دار الهلال اليوم من إحدى أكبر دور النشر في العالم، وهي الأقدم بعد “الأهرام”، وتملك أهم أرشيف للصور والمعلومات في الشرق الأوسط.

      مجلة روز اليوسف: وإسمها الحقيقي فاطمة محمد محي الدين يوسف (1898-1958)، ولدت في مدينة طرابلس، وتوفيت في القاهرة. عرفت بالمرأة المعجزة، فهي الممثلة البارعة، وهي المؤسسة لأكبر مجلة سياسية “روز اليوسف” في العالم العربي، مع أنها كانت شبه أمية، إلا أنها كانت قارئة ممتازة وذواقة للأدب والشعر.

هاجرت روز اليوسف إلى مصر عام 1912، “وأعطت إسمها، كما قال الأديب مصطفى سليمان لأكبر مجلة سياسية في البلاد العربية”، صدر عددها الأول في 26 أكتوبر 1925. كانت المجلة في البداية فنية تعنى بشؤون الفن والمسرح، وتحوّلت بعد سنة إلى مجلة سياسية، وصدرت بعد عشر سنوات جريدة يومية لمدة سنة وبضعة أشهر، لتعود إلى الصدور أسبوعيا، وعلى صفحاتها لمعت أسماء كبار الأدباء والصحافيين والفنانيين المصريين، كما لاقت رواجا منقطع النظير.

وتكمن أهمية هذه المجلة من الناحية التاريخية، في أنها إنفردت بنشر تحقيقات مثيرة حول حقيقة الأسلحة الفاسدة التي زوّد بها الجيش المصري خلال حرب فلسطين عام 1948. وعن دار هذه المجلة صدر مجلة “صباح الخير”، وهي مجلة نقدية كاريكاتورية، وقد لاقت شهرة ونجاحا في عالم الصحافة المصرية والعربية.

    مجلتا “المقتطف” و “المقطم”: أصدر “المقتطف”  في بيروت، أولا، فارس نمر ويعقوب صروف، ثم نقلاها إلى مصر، وبعد توقفها أصدرا مع شاهين مكاريوس مجلة “المقطم” التي استمرت بالظهور لمدة ستين عاما (1889-1952). ويذكر أنّ فارس نمر انتخب وكيلا لـ “نقابة الصحافة المصرية” التي تأسست عام 1912، وعضوا في “المجمع العلمي”، وعضوا في “مجلس الشيوخ”. أما يعقوب صروف فقد تولى كتابة المواضيع العلمية والأدبية باللغتين العربية والأجنبية، كما اشتهر بكتابة الأدب المقارن.

     جريدة البصير: أصدرها رشيد الشميل عام 1897، وكانت توزع أعدادها في القاهرة والإسكندرية، وعرفت بجريدة “ال الشميل”، المتحدرة من كفرشيما، لأنّ تلك العائلة استمرت في إصدارها حتى توقفها في العام 1964، وكان من أبرز كتابها د. شبلي الشميل.

     إلى جانب هؤلأ برز، أيضا، عدد من الأديبات الرائدات، نذكر : هند نوفل مؤسسة للصحافة النسائية في العالم العربي، بإصدارها مجلة “الفتاة” عام 1892. و زينب فوّاز،الصحفية اللامعة والأديبة البارعة، التي نشرت مقالاتها في صحف “النيل” و”المؤيد، و”الأهالي”، و “اللواء”، إلى جانب وضعها مجموعة من المؤلفات الأدبية. والشاعرة وردة اليازجي، والصحفية والأديبة الكبيرة، التي قال فيها الشاعر أحمد شوقي:

أسائل خاطري عما سباني          أحسن الخُلق أم حسن البيان

إذا نطقت صبا عقلي إليها          وإن بسمت إليّ صبا جناني

  يصح القول، في نهاية هذا الفصل، أنّ الأدب الإغترابي والصحافة المهجرية، رافقا المغتربين في حلهم وترحالهم، وما الحديث عن الأدب والإعلام الإغترابي في الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين ومصر إلا نموذجا عن هذه النهضة الأدبية، التي عمّت مختلف المهاجر التي حلّ فيها اللبنانيون، فكانوا في أدائهم أصحاب رسالة ثقافية وعلمية عبّرت عن إصالة هذا الشعب وقيمه وتراثه وحضارته ودوره الريادي في التاريخ وهو الذي اكتشف الأمصار، ونقل الحرف، وساهم في بناء الحضارة الإنسانية.

     ومن أجل المحافظة على هذا التراث الإغترابي، خصوصا الإعلامي منه، ليبقى منارة في بلاد الإغتراب، ورسالة خير وسلام للعالم، وليحافظ على الروابط الروحية الفكرية بين جناحي لبنان المقيم والمغترب، نرى أنّه من الضرورة، أن نسارع إلى تطبيق الإقتراحات الآتية، التي كنت قد عرضتها في كتابي “الهجرة اللبنانية، واقع وآفاق”، وتتلخص بالنقاط الآتية:

  • التعرف عن كثب على مشاكل وهموم وحاجات الإعلام الإغترابي، وذلك من أجل تطوير سياسة إعلامية إغترابية واعدة، منبعثة من متطلبات هذا القطاع، وقادرة على الإستجابة ضمن إطار الممكن لتطلعاته.
  • إعادة تفعيل تواصل المؤسسات الإعلامية الإغترابية في ما بينها، من أجل إطلاع الواحدة على تجربة الآخرين، ومن أجل استكشاف سبل التعاون فيما بينها .
  • تدعيم أطر التواصل ما بين الإعلام المقيم والمغترب، مما يؤدي حتما إلى إفادة كل منهما من تجارب الآخر.
  • إنشاء أمانة عامة للإعلاميين الإغترابيين في العالم، يكون أعضاؤها من المحترفين في قطاع الإعلام، ويكونوا على صلة وثيقة بالنقابات المعنية في لبنان.
  • إصدار دورية عالمية بالتعاون ما بين الأمانة العامة المقترحة، ونقابتي الصحافة والمحررين في لبنان، والجهات الرسمية، وزارتي الإعلام والخارجية والمغتربين، على أن ترسل المقالات عبر الإنترنت، وتعالج هذه الدورية القضايا التي تهم المغتربين وكذلك القضايا القومية والوطنية.
  • إعادة تنشيط الإذاعة الرسمية التي كانت تبث البرامج الخاصة إلى مختلف مناطق العالم، التي تتواجد فيها الجاليات اللبنانية. وتشجيع المحطات الفضائيات المرئية لإنتاج برامج خاصة بالمغتربين.
  • تنشيط البعثات الدبلوماسية اللبنانية، وتزويدها بكل وسائل الإتصال، ونشرة يومية بواسطة الإنترنت، حتى تكون المرجعية الأولى في الخارج لأخبار الوطن.
  • إستعمال الإعلام للإعلان من أجل تعريف المغتربين بوطنهم الأم وقضاياه المصيرية، وحثهم على زيارة لبنان. ونشر الدعايات التي تثير رغبة المغتربين بالإلتصاق بوطنهم.

  إنّ التعاون بين الإعلام الوطني والإغترابي سيؤدي حتما إلى دينامية فاعلة، نريدها أن تنمو وتتطوّر لتصل إلى مرحلة يتمكن فيها الإعلام المقيم من نقل كلمة المغتربين إلى لبنان، راصدا أحلامهم وآمالهم، ومعبرا عن الامهم وهموهم، وفي المقابل يحمل الإعلام المغترب صورة لبنان وكلمته إلى المغتربات، راصدا فيها الوجه الحقيقي للوطن الأم، ومعبر عن البعد الثقافي والحضاري للبنان.

الفصل الرابع

المبدعون اللبنانيون  في الخارج – الملكية الفكرية للبنان

     الأدمغة، الكفاءات، المبدعون، الطاقات، المواهب، الناجحون،   العباقرة، المتفوقون، وغيرها من التعابير التي عرفها القاموس الإغترابي للدلالة على المهاجرين اللبنانيين الذين لمعوا في دنيا الإغتراب، كواكب علم ومعرفة، وفن وأدب، ومراكزعالية، وأصحاب أعمال، ورجال دولة، وأصحاب مؤسسات كبرى، وقادة فكر، ومؤسسي الصحف والمطابع والجامعات والمدارس والجمعيات والأندية، وغيرها، هذه الكواكب التي حملت إسم لبنان عاليا في دنيا الإغتراب على مدى القارات، وفي مختلف الأزمان، حتى أنّنا نعجز أن نسمي دولة في العالم لم يتواجد فيها لبناني، وقد حمل في يمينه قلم الحق والخير والجمال والمحبة والسلام، وفي يساره معول العمل والبناء والتعمير، وقد علا جبينه عزّة النفس والكبرياء رغم صعوبة الفراق ومرارة الهجرة، حتى صحّ في هؤلاء المهاجرين العصاميين الناجحين الأحرار قول الشاعر:

        تغرّب لا مُستكبرا غير نفسه          ولا قابلا إلا لخالقه حكما

   المبدعون اللبنانيون في المهاجر، عبارة تفتح أمامنا كتاب الهجرة في صفحاته المنيرة، وقد دبّجت حروفها الذهبية باسماء كبيرة، مفرحة محزنة في الوقت ذاته؛ مفرحة بما قدّمه هؤلاء المبدعون للحضارة الإنسانية من عطاءات في كلّ وفن وفلسفة، ومحزنة لأنها إنتزعت من أحضان الأهل فلذات أكبادهم ومن قلب الوطن أدمغته التي هي مصنع تاريخه وحضارته ومجده. هو لبنان  منبع “هجرة المبدعين”، التي تحوّلت إلى إشكالية  حول منافعها ومضارها الوطنية، وقد، لخّص د. حسن صعب هذه الإشكالية على الشكل التالي: “إنّ عاطفتنا تجاه هؤلاء المغتربين، وتباهينا بإنجازاتهم العبقرية الإغترابية، ومناداتنا بوجوب عودتهم  الى الوطن الأم، لا تحلّ مشكلة إغترابهم . فليس المهم أن يعودوا إلينا لنحولهم إلى مغتربين في وطنهم، بدل أن يكونوا مواطنين في مغتربهم، بل المهم أن يكونوا معنا مواطنين مشاركين ومبدعين . والبحث العلمي للمشكلة هو الذي يؤدي إلى وعي حلّها الحقّ “.

      تاريخيا، مع أنّ هجرة الأدمغة أو المبدعين، قد رافقت، ولو بشكل محدود، بدايات الهجرة من لبنان، في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، إلا أنّ الإهتمام الجدي والعلمي الأكاديمي في الظاهرة، لم يبدأ إلا في نهاية الستينات من القرن الماضي، عندما نشر د. أنطوان زحلان، رئيس دائرة الفيزياء في الجامعة الأميركية، أول دراسة باللغة الإنكليزية، عنوانها: “هجرة الأدمغة”، تُرجمت إلى العربية في العام 1968. ويعود الفضل إلى د. الياس زين، في وضع أول كتاب علمي باللغة العربية، عام 1972، عن “هجرة الأدمغة العربية”، قدّم له د. حسن صعب بالقول:” إنّه مولود من مواليد الفكر الإنمائي، الذي اتخذ الإنسان مقياسا لنظرته إلى كلّ شيء”.

    البريطانيون هم أول من إبتدع عبارة هجرة أو نزيف الأدمغة Brain Drain ، لوصف خسارتهم من العلماء والمهندسين والأطباء بسبب هجرتهم إلى الولايات المتحدة، إلا أنّ معنى هذه العبارة إتسع ليشمل، في ما بعد، جميع حملة الشهادات الجامعية والعلمية والتقنية والفنية. في المقابل اتسعت هذه الظاهرة لتعمّ العالم بدوله المتخلفة والنامية وحتى المتقدمة منه. وترصد الولايات المتحدة حركة هجرة الأدمغة إليها من خلال جهاز متخصص في دائرة الهجرة الأميركية بواشنطن التي تصدر تقريراً سنوياً مفصلاً منذ العام 1967.

   والهلع من هجرة الأدمغة لا يتوقف فقط على الدول المتخلفة والنامية، بل يتعداه إلى الدول المتقدمة نفسها، وعلى سبيل المثال؛ فقد تحوّلت حالة نزوح الأدمغة في بريطانيا والهند إلى مشكلة سياسية، أمّا “الإتحاد السوفياتي”، سابقا، فقد طالب الدول الصناعية المستقطبة للأدمغة بالتعويض عن هذه الخسائر للدول النامية المصدرة لهذه الثروة التي لا تنضب، وفي سويسرا عُقد مؤتمر عالمي لــ “نزيف الأدمغة”، عام 1967، ونُشرت دراساته، في مجلد فريد من نوعه، تحت عنوان “نزيف الأدمغة”، ولم تسلم الإدارة الأميركية نفسها، وهي المحطة النهائية لهجرة الأدمغة، من إحتجاجات كبار الرسميين حول اجتذاب الكفاءات إلى الديار الأميركية بشتى الوسائل والطرق، فأصدرت تقريراً إحصائياً شاملاً للهجرة في الفترة بين عامي 1962  و 1967، وأرفقته باقتراحات وتوصيات لمعالجة الأمر والحدّ من فلتان هذه الهجرة. 

     وبالرغم من النظرة السلبية إلى “هجرة الأدمغة” على أنها هدر كبير لأكبر ثروة بشرية، وخسارة فادحة لمفاتيح الإنماء والإعمار، فإنّ بعض الدارسين ينظرون إليها من جانب إيجابي، على أساس أنها حركة تنقّل العلماء والفلاسفة والمفكرين عبر العصور هي جزء أساسي من تقدم الإنسان وتطوّر تاريخه الثقافي والعلمي، وفي الأمثلة على ذلك: فإنّ أحدى الدراسات المصرية نظرت إليها على أنها “إعارات” تمثّل إلتزامات أدبية، وتتماشى مع مبادئ الأخوة الإنسانية والتعاون الدولي. وفي العام 1955 خلصت ندوة الأونيسكو عن الهجرة وفوائدها الإيجابية بأنّها “أثر من آثار التضامن الإنساني، وتحدّ لضيق الأفق في التفكير الذي أبقى الإنسان طوال أجيال عديدة في خوف وحذر من الغرباء، محصورا في دائرته الضيقة المتماثلة الآمنة. أمّا بالنسبة للمهاجر، فإنّ انتزاعه من جذوره يبرهن على ثقته، في قدراته على العيش بين من لا يعرفهم، ومن هم على غير شاكلته. أمّا بالنسبة للبلد المضيف، فإنّ انفتاح أبوابه أمام المهاجرين، إنّما يشهد على قيمة مؤسساته، وعلى قدرته على استيعاب الأجنبي والغريب.” وتخلص معظم التقارير الباحثة في هذا الإتجاه إلى التأكيد على أهمية الإنسان، المتعلم والمتدرب تدريبا فنيا وثقافيا وتقنيا في المساهمة الفعلية في رفاهية الدول وإنمائها وإعمارها وتقدمها صناعيا وحضاريا. فأين هو موقع دول العالم العربي، وخصوصا لبنان، من نظريتي الربح والخسارة في نزيف الأدمغة؟

     تبدو صورة نزيف الأدمغة في دول العالم العربي قاتمة، حيث الخسائر من هذه الهجرة تطال مختلف المجالات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، فهي خسارة كبرى في القطاعات التالية:

 – في التعليم حيث يحتاج تعليم ملايين الأميين إلى الألاف من طاقات خريجي الجامعات الذين ابتلعتهم الهجرة.

 – في العلم والتقنية، حيث هذا النزيف يؤخر عشرات السنين تنمية الجامعات العربية كمراكز للإمتياز العلمي والتقني، من حيث تحديثه وتطويره.

 – في التنمية، إذ انّ عملية الهجرة، مضادة تماما لأهداف الأمم المتحدة في التنمية، ومثال على ذلك، فإنّ وجود عشرين ألف لبناني مدرّب في ساو باولو، هو عدد كاف لعرقلة إنماء لبنان وتطويره خلال جيل واحد!-

 – في الصحة، حيث تعاني الدول العربية نقصا فادحا وحادا في عدد الأطباء بالنسبة لإجمالي السكان، وهذا يؤدي إلى كارثة حقيقية في تنفيذ البرامج الصحية، خصوصا على كمية الإنتاج، فالصلة وثيقة بين صحّة العمال وبين رفع كمية الإنتاج، أو تدنيه. وممّا لا جدال فيه، أنّ هذا النزيف يشكّل خسارة مالية لا تعوّض، فعلى سبيل المثال فقد بلغت خسارة لبنان من جراء هجرة الكفاءات التي تعلمت وتدربت فيه، ما لا يقلّ عن أربعين مليون دولار سنويا، وهذا الرقم في تزايد. في المقابل، فإنّ هذه الخسائر في مختلف القطاعات وغيرها يقابلها مردود مالي وإقتصادي في الدول الجاذبة لهذه الأدمغة، التي تسجّل أرقاما عالية وكسبا فادحا، فقد بلغ المردود المالي الناتج من إستثمار علم وخبرة وموهبة العالم الواحد المستقطب للإقتصاد الأميركي حوالي 214 ألف دولار سنويا. وقد لجأت “إسرائيل” – الكيان الغاصب – إلى اصطياد العلماء العرب، وقد ورد في تقرير صادر في واشنطن عام 2007، أنّ أجهزة الموساد اغتالت 350 عالما عراقيا، و200 استاذا جامعيا، متخصصا في المجال الذري .. وعلى لائحة الموساد مسجل ألف عالم عراقي مستهدفين بالتصفية، بكلفة “ربع دولار، فقط، للعالم الواحد!” فيا للعار!

     يستوقفنا البحث في موضوع “المبدعون اللبنانيون” في العالم، أمام إشكاليات ثلاث: الأولى، هل نحن قادرون على إحصاء دقيق وشامل للأدمغة اللبنانية في المهاجر؟ الجواب المختصر المفيد، لا، وذلك بسبب غياب الإحصائيات الرسمية الدقيقة المرافقة لهذه الهجرة. الإشكالية الثانية، وهي تستتبع الأولى، هل نتجاهل هذا الموضوع كليا، ونتجنب الغوص فيه، ونترك لغيرنا وللزمن البت فيه؟ الجواب أيضا، هو كلا. الإشكالية الثالثة، وهي الأقرب إلى المنطق والواقع، هل نضع لبنة في هذا البناء، تضاف إلى ما شيده قبلنا، وتكون أساسا لمن يأتي بعدنا. الجواب هو نعم، وقد زودنا تاريخ هجرة الأدمغة من لبنان بسجل ذهبي لمعت على صفحاته أسماء لبنانيين مغتربين، رفعوا إسم بلادهم عاليا، وكانوا قمة من القمم الحضارية، ومنارة هداية للشعوب التي استضافتهم، ورسالة خير وعلم وتضحية للمجتمعات التي أقاموا بين ظهرانيها. وقد تقدم مدير عام المغتربين في الاجتماع الاستثنائي الذي عقد في 25-26 تموز 2017 بتوصية الى الجامعة العربية، تقوم على تحديث السياسات الخاصة، بالاستفادة من الكفاءات العربية المهاجرة، باعتبارها ملكية فكرية لدول المنشأ.

        د. علي حويلي، في أحدث كتاب عن تفوّق الأدمغة اللبنانية في العالم، أصدره هذا العام تحت عنوان “علماء مبدعون، لبنانيون أمريكيون”، يقول: “لم يقدر إلى اليوم لأي باحث لبناني، أو لمؤسسة لبنانية حكومية، أو أهلية معنية بالنشاط العلمي المعاصر من مواكبة شاملة لما خلّفه ويخلفه العلماء اللبنانيون في المهاجر من إنجازات وإبداعات وإبتكارات في كافة الميادين العلمية والأكاديمية والتكنولوجية والتنقية. علما أن هذا الإنتاج الغزير تختزنه محفوظات أرقى الجامعات ودوائر الأبحاث والمراكز العلمية الأجنبية، ويشكّل أحد الروافد الهامة التي تثري منظومة الفكر العلمي العالمي، لذا كان لا بدّ، من اللجوء إلى اختيار شريحة من مشاهير العلماء في الولايات المتحدة الأميركية وكندا على اختلاف اختصاصاتهم العلمية والمهنية والتكنولوجية…”

  نحن نؤيد نظرية د. حويلي، ونتبنى منهجيته في عملية إنتقاء مجموعة من المبدعين اللبنانيين في الخارج، من الذين اطلعنا على سيرتهم وانجازاتهم من خلال مطالعاتنا، أو من خلال معرفتنا الشخصية بهم، أو من خلال مشاركتنا في حفلات تكريمهم، وذلك من أجل الإضاءة المختصرة على هذه النخبة التي تحوّلت مع الزمن إلى “أسطورة”، لا بدّ من تمجيدها، وهي التي رفعت عاليا مجد لبنان في العالم، وصحّ فيها قول الشاعر سعيد عقل، في قصيدته “أرض الحبّ”:

     ومن الموطن الصغير نرود الأرض      نذري في كلّ شطّ، قرانا،

    نتحدى  الدنيا  شعوبا   وأمــصــارا       ونبني ، أنى نشأ،   لبنانا

وعلى أساس القاعدة التي وضعها د. حويلي، والتي تقوم على اختيار شريحة من مشاهير العلماء، بالطبع دون الإنتقاص من قيمة الآخرين، سنحاول التعرف والإشارة على نماذج من هؤلاء المبدعين الذين شغلوا العالم بنبوغهم، ورفعوا إسم بلادهم عاليا. وخيراً فعلت المديرية العامة للمغتربين بطباعة هذا المؤلَف.

أولا- في أميركا الجنوبية، في البرازيل والأرجنتين.

في البرازيل

   البداية ستكون من البرازيل، لنتعرف على نخبة من مشاهير لبنان في هذا البلد. ويأتي في الطليعة باولو سليم المعلوف صاحب لقب “أشهر المغتربين العرب”.

 بطاقة : باولو سليم المعلوف  

 كتبت جريدة “النهار” البيروتية في عددها الصادر، بتاريخ 4 كانون الثاني عام 1993: “باولو المعلوف حاكم ولاية سان باولو البرازيلية بالإنتخاب الحرّ من قبل خمسين مليونا من البرازيليين، بالرغم من أنف أعدائه الكثيرين الذين لا يحبون ديمقراطيته، ويهابونه لطموحاته الكثيرة، وذكائه ودهائه، واستعداده العلمي كمهندس متفوق. وهو يتطلع إلى الكرسي الأعلى ، إلى رئاسة الجمهورية، فإذا وصل إليها يمكنه أن يجعل من البرازيل أقوى جمهورية في العالم، لكثرة مواردها الطبيعية من البترول والمعادن، والتي قال عنها رونالد ريغن: “إنّ مستقبل العالم في البرازيل”.

    تتابع الجريدة :”ولد باولو، وإسمه الحقيقي بولس، في البرازيل عام  1930، وتعلّم فيها، ولكنه لم ينسَ زيارة قرية أجداده في  حدث  بعلبك، عام 1985، فتفقدها وذرف الدمع الساخن، عندما دخل البيت الذي وُلد فيه والده سليم فرح المعلوف، كما أنّه تعرّف عن كثب على شراسة الحرب الأهلية في لبنان، ليصبح من مناصري “حركة السلام للبنان”.

     منذ صغره كان ميالا للعمل السياسي البنّاء، فدخل الحزب الديمقراطي التنظيمي، وأخلص له، وعمل في المجالات الإجتماعية – الإنسانية، فأحبّه أعضاء حزبه، فرشحوه لعضوية المجلس النيابي، فنجح وطارت شهرته في البرازيل، ثم رشحوه لرئاسة الجمهورية،في أوائل الثمانينات، فعارضه أصحاب المصالح الكبيرة، ومن بينهم اليهود الذين ينحازون إلى الدائنين من الأيادي الأجنبية الراغبين في إبقاء البرازيل ترزح تحت الديون بآلاف ملايين الدولارات…”.

   عندما سئل باولو معلوف عن رحلته مع عالم الإغتراب، أجاب: “لقد هاجر والدي من لبنان إلى البرازيل عام 1910، وكان في السابعة عشرة من العمر، وتزوج من أمي التي كانت قد هاجرت إلى هذا البلد برفقة أهلها. أنا ولدت في البرازيل، ولكن بدماء لبنانية مية بالمية، وتزوجت بدوري من لبنانية من بسكنتا قرب جبل صنين، ولذلك فإنّ أولادي، أي الجيل الثاني، هم أيضا من دماء لبنانية خالصة. صحيح أنّنا نحمل الجنسية البرازيلية ونحب البرازيل، ولكننا فخورون بأصولنا اللبنانية وتقاليدنا التي نحترمها كثيرا، ومنها اجتماعنا جميعا، أولادا وأحفادا، كلّ يوم أحد في عطلة الأسبوع في منزل أم زوجتي، لنأكل، فقط، الأطعمة اللبنانية؛ التبولة، الكبّة النيّة، الحمص المتبل، الصفيحة والملوخية..ايضا نشرب كأس العرق الذي يُعتبر أفضل بكثير من الخمور الأخرى.” ويؤكد باولو وجود حوالي 7 إلى 8 ملايين لبناني في البرازيل، وفي ساو باولو وحدها أكثر من 10 أندية لبنانية، تحمل أسماء مدن لبنانية، مثل زحلة ومرجعيون وراشيا وغيرها.

    دخل باولو معترك الحياة في البرازيل، وهو يحمل الدكتوراة في الهندسة، من بابين أساسيين: الأول، تجاري حيث عمل  مع العائلة، التي كانت تملك أكبر مصنع للأخشاب في أميركا اللاتينية والذي يضم نحو 7 ألاف عامل. أمّا في السياسة فقد تنقّل في المناصب الكبرى من رئيس بنك إلى مرشح لرئاسة الجمهورية؛ إنطلق باولو رئيسا لبنك المدخرات الفدرالي في مدينة ساو باولو، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، كأصغر موظف يتولى مثل هذا المنصب، ومن ثمّ إنتخب عمدة لهذه المدينة لفترتين متتاليتين، فحاكما لها، فوزيرا للمواصلات، فرئيسا لغرفة التجارة والصناعة.. فعضوا في مجلس الشيوخ بغالبية، 700 ألف صوت، وهي أعلى نسبة من الأصوات في تاريخ البرازيل يحصل عليها أي مرشح لمنصب هذا المجلس.

   باولو، إسم إقترن بولاية ساو باولو، ولا تُذكر هذه الولاية، إلا واسمه معها، فهو الذي جعل منها مدينة عالمية تضاهي كبرى مدن العالم، بل جمهورية قائمة في ذاتها، فوق مساحة من الأرض توازي مساحة لبنان وسوريا مجتمعة، ويقطنها 17 مليون نسمة.

    باولو هو صاحب الإنجازات النهضوية والإنمائية والإصلاحية الكبرى في ساو باولو، ومن أبرز معالم هذا الرجل المهندس الأسطورة في تاريخ الإغتراب: إقامة الجسور، وما زالت الجسور الثلاثة التي بناها الواحد فوق الآخر، إلا الدليل على عبقريته ونبوغه، هذا إلى جانب بناء المدارس والمستشفيات وتنفيذ المشاريع الزراعية والصناعية وتأمين الكهرباء والماء والهاتف وإنشاء الساحات العامة وشقّ الطرقات، ووضع المشاريع لدعم الفقراء وتحسين وضعهم الإجتماعي، وتنظيم الضرائب وضبط المخالفات ووقف الإعتداءات ولجم أعمال السرقة والإخلال بالأمن وإغناء الخزينة. ولعلّ من أبرز ما قام به إرضاء لمشاعر جمهوره الكبير ، هو إطلاق إسم “إيرتون سينا”، بطل العالم في سباق (الفورملا 1)، الذي قضى في حادث سير على بعض الساحات والشوارع، وخصوصا على الأوتستراد الذي يربط العاصمة بالمطار.

       باولو معلوف هو النموذج الواضح لنجاح اللبنانيين في بلاد الإغتراب.

 وفي أحدث إحصاء للطاقات الإغترابية في البرزيل، أجري في مطلع الألفية الثالثة، نُشر آخر إحصاء رسمي تضمّن أسماء أعضاء مجلس الشيوخ وحكام الولايات والنواب الفدراليين المتحدرين من أصل لبناني، يبين لنا هذا الجدول حجم هذه الثروة الكبيرة، التي خسرها الوطن وربحها المهجر.

  • في مجلس الشيوخ؛ خمسة يتحدرون من أصل لبناني من بين 81 عضوا، وهم السيناتور:
  • إسبيريدو أمين، عن ولاية سانتا كاترينا.
  • أونوفر كينان، عن ولاية غوياس.
  • بادرو سيمون، عن ولاية ريو غاندي دوسول.
  • رامز تابت، عن ولاية ماتو غراندي دوسول.
  • جوزيه إدوارد يارا، عن ولاية بارانا.
  • حكام الولايات، يحكم خمس ولايات من أصل 27، متحدرون من أصل لبناني:
  • ولاية باهيا، يحكمها باولو غانم سوتو.
  • ولاية اسبيريتو، يحكمها فيكتور بويز.
  • ولاية شيارا، يحكمها تاسو ريبا يرو جريصاتي.
  • ولاية بارا، يحكمها المير غبريال.
  • ولاية ريو غراندي دوسول، يحكمها  أنطونيو بريتو.
  • أعضاء مجلس النواب الفيدرالي ، يضم هذا المجلس مع رئيسه ميشال تامر 35 نائبا من أصل لبناني:
  • إبراهيم أبي عقل، عن ولاية ميناس جيراس.
  • ماركو أنطونيو أبي شديد، عن ولاية ساو باولو.
  • روبرتوعوّاد، عن ولاية ماتوغروسو.
  • جبرو قزي، عن ولاية ولاية باهيا.
  • راوول بيلهام، عنولاية ميناس جيراس.
  • لويس بويز عن ولاية إسبيرتو سانتو.
  • فالمار كوستانيتو، عن ولاية ساو باولو.
  • موسى ديميس، عن ولاية بياوي.
  • فلافيو ديرزي، عن ولاية ماتوغروسو.
  • مارو فيكوري، عن ولاية ريودي جانيرو.
  • سارايافا خوزي فليب، عن ولاية ميناس جيراس.
  • فاينسا فيليب، عن ولاية ريو دي جانيرو.
  • جو فران فريجات، عن ولاية ديستر يتو فيديرال.
  • فرنادو باولو، غبيرة، عن ولاية ريو دي جانيرو.
  • لويس كارلوس هاولي، عن ولاية بارانا.
  • نايف جبور ، عن ولاية ميناس جيراس.
  • خوزيه محمد جاينن، عن ولاية بارانا.
  • إينيسو رومل جورج، عن ولاية ميناس جيراس.
  • آري كارا، عن ولاية ساو باولو.
  • جورج خوري، عن ولاية باهيا.
  • جورج مدالين، عن ولاية ساو باولو.
  • الياس مراد، عن ولاية ميناس جيراس.
  • موريسيو نجار، عن ولاية ساو باولو.
  • معلولي نيتو، عن ولاية ساو باولو.
  • لويس فرناندو سار مينتو نيكولا، عن ولاية أمازوناس.
  • نيلسون أوتوش، عن ولاية سيارا.
  • ليديا كنعان، عن ولاية غوياس.
  • سيماو ساسيم، عن ولاية ريو دي جانيرو.
  • ميرو تيكسيرا، عن ولاية ريو دي جانيرو.
  • ميلتون جورج تامر عن ولاية ريو دي جانيرو.
  • ميشال تامر، عن ولاية ريو دي جانيرو.
  • نيلسون طراد، عن ولاية ماتو غروسو دو سول.
  • إيشيون باربالهو زحلوط، عن ولاية بارا.

   وصدر العديد من المؤلفات والدراسات والأبحاث التي تطرق إلى وجود المبدعين في البرازيل ومن بينها: كتاب “ذكرى الهجرة”، الصادر في ساو باولو، عام  1945 ، لمؤلفه المغترب الأديب والصحفي توفيق فضل الله ضعون ، أحد أعضاء “العصبة الأندلسية”، وصاحب مجلة “الدليل”، وفيه يستعرض المؤرخ في الفصل الخامس والأخير من كتابه سيرة أكثر من خمسين شخصية مهجرية، تألقت نجاحا في البرازيل، في مختلف المجالات الثقافية والأدبية والفنية والسياسية والتجارية والأعمال الخيرية، والمساهمات الفعلية في أنشطة إنماء البرازيل وإعمارها وتقدمها. ومن الأخبار والمتفرقات التي تعمّد المؤلف إدراجها في نهاية الكتاب، الجهود التي قام بها المهاجرون في البرازيل من أجل إنشاء “محطة الإذاعة العالمية” في لبنان. وتحت عنوان “صور وسير”، أورد المؤلف سيرة وصور خمسين مبدعا في مختلف المجالات، وهم: نعمه يافث، جورج معلوف، اسكندر عيسى المعلوف، إدمون عيسى معلوف، رزق الله حدّاد، جورج قربان، فارس الدبغي، يوسف لطيف، نسيم الخوري، أسعد بشارة، ريشا الغلبوني، أنطون شكور، الياس زعرور، أسعد البيطار، الياس فرحات، سليم لبكي، جورج حسون معلوف، طنوس حنا الياس، بشارة محرداوي، نجيب حنكش، نظير زيتون، جورج كرم، سعيد اليازجي، عقل الجرّ، حبيب إسطفان، أنيس الراسي، إسكندر كرباج، يوسف البعيني، أنطون سعد، وصفي جبرين، جورج ليان، سابا سلوم، جبران سعاده، رشيد سليم الخوري، شكرالله الجرّ، هند أبي جوده، فورتونا سلس، رفيق الحمصي، جورج فرح، جورج كركار، مسلم ديب، موسى سلوم، الفريدو عيسى عسلي، أسد يافث.

      ويورد نبيل حرفوش، في الجزء الأول من كتابه “الحضور اللبناني في العالم” مجموعة من الإحصاءات الصادرة عن مراجع رسمية في البرازيل، بين عامي 1940 و 1968، يتناول فيها أعداد الذين شغلوا مراكز مهمة أو امتهنوا مهنا عالية في البرازيل، إلى جانب جداول تتضمن أسماء المجلات والصحف والأدباء والنوادي والجمعيات في مختلف الولايات البرازيلية. ومن المفيد أن نلقي نظرة على الجدول الذي يتطرق إلى عدد الذين شغلوا المناصب التالية: 7وزراء، 294 محاميا، 355مهندسا،420 طبيبا، 15 حاكما، 47 قاضيا، 31 محافظا، 455 ضابطا، 4640 جنديا، 63 نائبا، 450 أستاذا، 143 رجل دين، 95 مدير مصرف، 210 خبراء فنيين.

في الأرجنتين

   ومن البرازيل إلى جارتها الأرجنتين، حيث الجالية اللبنانية، تُعتبر من بين أكبر أربع جوالي في هذه البلاد التي استعمرها الإسبانيون 300 سنة، بين عامي (1516-1816)، وقضوا على حضارتها الهندية العريقة المعروفة بـ “الحضارة الأزتيكية”، وقد عرفت الأرجنتين بعد استقلالها  في العام 1816، وحتى مطلع القرن الحالي سلسلة من الأحداث السياسية الدرامتيكية التي ظهرت  تداعياتها بشكل واضح على قوانين الهجرة، التي تأثر بها الوافدون إليها من بلاد الشام، خصوصا من لبنان.

   يقول مثل أرجنتيني :”المكسيكيون هم أبناء الأزتك، والبيرونيون هم أبناء الإنكا، والأرجنتينيون هم أبناء البواخر”، يكشف لنا هذا المثل بوضوح هيئة تركيب البنية السكانية في الأرجنتين، فهي خليط متعدّد ومتنوّع من الشعوب التي هاجرت إليها عبر البحار، وفي طليعتها القادمون إليها من  أوروبا، ومن “بلاد العرب”، خصوصا من لبنان الذي أصبحت جاليته تأتي في المرتبة الرابعة بعد الجوالي الإيطالية والإسبانية والروسية، وهي الثالثة من حيث الإنتشار اللبناني في العالم بعد جاليتي البرازيل والولايات المتحدة.

وعندما يتطرق المؤرخون إلى عصرنة الأرجنتين وازدهارها يذكرون بفخر وتقدير الجالية اللبنانية بين الهجرات الخارجية، ولاسيما الأوروبية منها، التي ساهمت في إنماء وإعمار هذه البلاد، وذلك بفضل جهود وتضحية أبناء هذه الجالية، التي ما زال تاريخ الأرجنتين يسجّل نجاحاتهم وعطاءاتهم في صفحاته الذهبية.

    وعندما تُذكر طلائع هجرة أهل الشام ومنهم اللبنانيين إلى الأرجنتين، يُذكر، أول موظف رسمي، هو “الراهب قصّاب” الماروني الذي وصل البلاد عام 1877، وعينته السلطات فيها بعد تسع سنوات، مستشارا للإدارة العامة للهجرة، وذلك من أجل تسهيل الإجراءات الخاصة بدخول “العرب” إلى الأرجنتين. وتعود أهمية هذا الراهب إلى أنّه قام بترجمة “قانون الهجرة” الصادر في العام 1876، وبعض المنشورات الأخرى المتعلقة بعادات وتقاليد أهل البلاد إلى اللغة العربية. كما تمكن هذا الراهب من تقديم المساعدة للوافدين الجدد من خلال تحقيق المكتسبات لهم، مثل حقّ الإقامة المجانية في فندق خاص، وتغطية مصاريف النقل لمن يودّ الإنتقال إلى الولايات الداخلية من البلاد، للعمل في القطاع الزراعي. كما أسّس وديع واسكندر شمعون عام 1902 “مؤسسة السلام” للسهر على شؤون المهاجرين بالتنسيق مع إدارة الهجرة الرسمية. ليتوسع فيما بعد عمل هذه المؤسسة بالسماح لها عبر “وزارة الفلاحة الأرجنتينية” باستقدام اليد العاملة في قطاع الزراعة. وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي نشرت الدوائر الرسمية للهجرة في الأرجنتين لائحة بأسماء “العرب” الذين تسلموا مهاماً سياسية، بين عامي 1919 و 1989، عندما تولى كارلوس منعم رئاسة جمهورية الأرجنتين، وفي ما يأتي اللائحة المذكورة مصنّفة حسب التسلسل التاريخي:

  • أعضاء في المجالس البلدية أو القروية، بين العامين 1919 و 1932 وردت الأسماء التالية: نعمة الله رياض، يوسف سوما، يوسف زحلا، سليم صباغ والفريدو مارون، وهم من الجيل الأول المهاجر.
  • رؤساء المجالس البلدية أو القروية، بين عامي 1923 و 1934، وهم: عزيز سرحان عبيد، نعمة الله رياض، الياس غبيرة، ويوسف خالد، وهم من الجيل الأول الوافد.
  • نواب في البرلمانات المحلية، بين عامي 1926 و 1936، وأسماؤهم: الياس يخضر، روسندو أيوب، إميل معلوف، إدواردو ميغيل، ونعمة الله رياض.
  • نواب في البرلمان المركزي، بين عامي 1938 و 1950، وهم: لورانس لوخاس، الفريدو دكانوا، فسنتي سعاده، روسندو أيوب،أنخل قزحيا، حنا نعيم ولويس عبدالله، وهم من الجيل الثاني، باستثناء روسندو أيوب من الجيل الأول.
  • رؤساء حكومات محلية، بين عامي 1946 و 1950، وهم من الجيل الثاني: فسنتي سعاده، رامون قسيس، والياس أمادو.
  • وزراء من الجيل الثاني، بين عامي 1955 و 1958، وهم: سادي بوتيث، رامون إبراهيم، ريكاردو رومي، وخورخي وهبي.
  • رئيس مجلس الشيوخ للعام 1989، إدواردو منعم.
  • نائب رئيس جمهورية للعام 1989، إدواردو منعم.
  • رئيس جمهورية الأرجنتين للعام 1989، كارلوس منعم.
  • في السلك العسكري، برز الضابط رامون ابراهيم عام 1935، الذي رقي إلى رتبة جنرال بعد عشرين عاما، والكولونيل ألبرتو فاضل عام  1950.
  • في الطبّ، برع من الأطباء: يوسف طويباس، رئيس الفريق الطبي للقصر الجمهوري عام 1919، وأسونثيون كيروز عام 1921. ومن الصيدلة: إستيلا نعيم عام 1929، وفاطمة ناصر عام 1935، ويولاندا باربرا سنة 1936.

 ويُعتبر العلامة الطبيب خليل سعاده من أشهر المبدعين الذين عرفتهم الأرجنتين بين عامي 1914 و 1920، فهو: “طبيب المغتربين وخطيبهم وفيلسوفهم ومنارتهم وموحد كلمتهم”، وهو صاحب الشعار: “الحقيقة أن تُقال لا أن تُعرف”.  

بطاقة : العلامة خليل سعاده (1857-1934)

   سبعة وسبعون عاما، عاشها العلامة خليل سعاده، أمضى منها أربعة عقود من عمره، متنقلا بين مهاجر مصر، الأرجنتين والبرازيل، طبيباً يعالج الأجساد والنفوس، ويؤسّس الجمعيات المهجرية وينشئ الصحف العربية الاغترابية، ويضع المؤلفات الطبية والأدبية والدينية، وهدفه، من كلّ ذلك، إبقاء الوطن حيّاً في نفوس أبنائه المنتشرين في العالم، وتعبئتهم من أجل تحرير بلادهم من الاستعمار الخارجي. يقول جورج صيدح، في كتابه: “أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية”، ص451 : “الدكتور خليل سعاده إمام من أئمة الفكر والبيان ورائد من رواد النهضة الأدبية والحركة القومية في المهاجر. حلّ بين جوالي المغتربين في البرازيل فكان طبيبها وخطيبها وفيلسوفها ومنارها. ولد في ضهور الشوير وتخرّج طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت، وتعاطى الطبّ والصحافة… ونعرف عنه أنّه والد الزعيم القومي السوري المرحوم أنطون سعاده. وأنّه كان رفيع الخلق، إنساني العاطفة، عربيّ النزعة، سخيّ الروح واليدّ. وكانت حياته سلسلة جهاد لمحاربة الصهيونية والاستعمار، وبفضله اجتمعت كلمة المهاجرين الأحرار، ودوّى صوتهم في مسامع الدول الغربية، وانطلقت جريدة “الرابطة” تخاطب بلسانهم الدوّل العربية، وتقذف بالنار صنائع الإستعمار”.

     مرّت حياة خليل سعاده، بين الوطن وبلاد المهجر، في أربع مراحل رئيسية، وهي كما حدّدها الدكتور علي حميّة في كتابه: “العلامة د. خليل سعاده، سيرته وأعماله”: المرحلة السوريّة، نسبة إلى بلاد الشام،(1857-1892)، والمرحلة المصريّة (1892-1913)، والمرحلة الأميركيّة، الأرجنتين (1914-1920)، وأخيراً المرحلة الأميركيّة، البرازيل (1920-1934).

     ولد خليل سعاده في بلدة الشوير (المتن الشمالي) عام 1857. والده أنطون ولقبه “الشيخ”، للدلالة على شدّة تهذيبه واقدامه ومحبته للعلم وروحه المرحة، يروى عنه القول: “أنا لا أخاف الموت، إنّما أخشى أن يبطل الموت بعدي”. والدته حنّة سعاده، اشتهرت بفضائلها وطهارة قلبها وتقواها، ودعوتها إلى أعمال الخير والبرّ. إخوته خمسة صبيان وبنتان، برز من بينهم “الأستاذ” داوود، وسليم المجاز في الفلسفة واللاهوت من جامعة أثينا، وله مقالات في الفلسفة نشر بعضها في مجلة “الجنان”، لصاحبها بطرس البستاني. تأهل خليل من نايفة نصير، ورزق منها سبعة أولاد، ستة صبيان وبنت واحدة، من بينهم أنطون مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تعهّد اخوته الصغار، وهو في الحادية عشرة، بعد وفاة والدته عام 1915، بسبب وجود والده في الأرجنتين.

    تنقّل خليل في دراسته بين بلدته الشوير والكلية السورية الانجيلية (الجامعة الأميركية) في بيروت: بدأ دراسته التمهيدية في “كتاتيب” بلدته، ثمّ التحق بأخيه سليم في مدرسة عبيه، وعندما فتحت مدرسة المرسلين الانكليز ابوابها في الشوير عام 1875، عاد لمتابعة تحصيله العلمي فيها، ومنها انتقل بعد سنوات ثلاث الى الجامعة الأميركية، طالبا في معهد الطبّ، حيث ظهر نبوغه مبكراً، وبدا ذلك من خلال اختياره لالقاء المحاضرات على زملائه، وهو ما زال طالباً، الى جانب انخراطه في النشاط الطلابي والثقافي؛ محرّراً في مجلتي “الجنان” و”الطبيب”، ومقتحما باب “الممنوعات” من المؤلفات، المحظورة لاهوتياً، فقرأ اولاً لهربرت سبنسر، ثمّ كتباً في مذهب داروين، والجدال بشأنه ما زال محتدماً، ومن يتجرأ على مطالعة مؤلفاته، فهو يعدّ كافراً، وكانت عمدة الجامعة تنظر إليه نظرة الشكّ والارتياب، لقد أيّد خليل نظرية التطوّر، وظهر ذلك بوضوح، فعليا في مشاركته الاحتجاج ضد ادارة الجامعة التي قرّرت طرد الدكتور أدوين لويس، بحجة أنّه من أتباع داروين، ممّا يتعارض ومسألة خلق العالم الواردة في التوراة، ونظريا في مقدمة قاموسه، “قاموس سعاده”، الذي نشره في القاهرة عام 1911.

      تخرّج خليل في العام الدراسي (1882- 1883)، بشهادتين في الطبّ: الصحة العامة، والجراحة النسائية والتوليد، مع تقدير خاص من الدكتور بلس، كما اجتاز الامتحان النهائي بنجاح أمام “المكتب الطبي السلطاني” في اسطنبول، حيث أظهر تفوقا وذكاء، خصوصا في تمكنه من اتقان اللغة التركية في فترة قصيرة جداً. ويذكر أنّه في تلك السنة، قاد خليل سعاده أول انتفاضة طلابية في العالم العربي، وذلك على أثر إقدام الجامعة على اعتماد الانكليزية، بدلا من العربية، لغّة وحيدة للتدريس. تنقّل د. سعاده بين عامي 1885 و 1891 بين القدس وطبريا يزاول الطبّ والأدب، فقد اختارته “البعثة الملكية الإنكليزية” مديرا لمستشفاها في القدس، ومستوصفها في طبريا. وفي تلك الفترة تعرّف على الأمير عبد القادر الجزائري، وانتسب إلى الماسونية وترأس محفلها، وعهد إليه مرافقة أمبراطور إلمانيا غليوم الثاني، عند زيارته الأماكن المقدسة، كما رافق ملك انكلترا إدوار السابع أثناء قدومه إلى مدينة الخليل.

     لم يكتف خليل سعاده، في المرحلة الأولى من حياته، في التخصّص في الطبّ  لمعالجة الأجساد، بل سارع مبكراً، إلى العناية بالقضية الوطنية، فكتب أول مقال له، بعد عام من دخوله الجامعة، في مجلة “الجنان”، تحت عنوان: “تأخر بلادنا وتقدمها”، واشترك د.سعاده في اسطنبول، عام 1883، في مناظرة وصفت بالعنيفة، دارت رحاها بين مجلتي “الطبيب” في بيروت، و”المقتطف” في القاهرة، ونشرت لاحقاً في اسطنبول في كتيب: “نبلة في كنانة”. في نهاية العام 1884 أجاز المستشرق جورج بوست، إلى الثلاثي بشارة زلزل وابراهيم اليازجي وخليل سعاده، إعادة إصدار مجلته “الطبيب”، حيث ظهرت مواهب سعاده على صفحاتها، من خلال مقالاته العلمية والطبية، خصوصا،ً تلك المتعلقة بالامراض السارية، لاسيما السلّ الرئوي وعوارضه، نظراً لخطورة هذا المرض في تلك المرحلة.  

     أدّت موجة الإرهاب العثماني الرسمي المنظّم ضد “الإصلاحيين” والمطالبين بالاستقلال والحريّة لشعوبهم، إلى هجرة العديد من مفكري بلاد الشّام. فانتقل سعاده الى القاهرة عام 1892، ملتحقا بيعقوب صروف وابراهيم اليازجي وشبلي شميل وفرح انطون ورشيد رضا، وغيرهم. وكانت مصر، في ذلك الوقت، رازحة تحت الاحتلال الانكليزي، إلا أنّها كانت تتمتّع بالاستقرار وتنعم بالحرية الفكريّة إلى حدّ ما.

     أسّس د. سعاده مع بعض زملائه، بعد وصوله إلى مصر، بفترة قصيرة، أول جمعية سياسية علمانية سرّية “الجمعية اللامركزية”، وغايتها النظر في “المسألة العربية، وتحرير العرب من سيطرة الأتراك”، وقد ضمّ الاجتماع التمهيدي لهذه الجمعية نخبة من المثقفين السوريين، من بينهم رفيق بك العظم وعبد الحميد الزهراوي وحقي بك العظم حاكم دمشق سابقاً ورشيد رضا صاحب مجلة “المنار” وداود بك بركات رئيس تحرير “الأهرام” وابراهيم سليم النجار. شارك في تحرير جريدة “الاهرام” لصحابيها سليم وبشارة تقلا. كانت مقالاته العلمية، الإجتماعية والسياسية تنشر في الصفحة الأولى، إلا أنّه توقف عن الكتابة فيها، لمدّة ثماني سنوات 1905- 1913، انصرف خلالها الى الاهتمام بالادب ومراسلة الصحف، خصوصا (التايمز) الانكليزية . عاود الكتابة في الاهرام عام 1913، وغالباً ما نشرت مقالاته في الزاوية المخصّصة لافتتاحية مؤسس الجريدة أو رئيس تحريرها. وأثناء وجوده في مصر، توطّدت علاقاته بالزعماء المصريين: عرابي باشا قائد ثورة 1882 ضد الانكليز. مصطفى كامل احد مؤسسي مصر الحديثة وسعد زغلول مؤسس حزب الوفد (الحزب القومي). كما قام بزيارة وطنه مرتين، الأولى عام1904 اثناء ولادة ابنه انطون. والثانية عام 1908 من اجل العمل على بناء “المستشفى السوري” في بيروت، لمعالجة أمراض السّل الرئوي، فشكّل لهذه الغاية “لجنة المستشفى السوري”، كلّفها السهر على تنفيذ المشروع ، وباشرت اللجنة عملها بالاعلان عن اكتتاب مالي في جريدة “لسان الحال”، كما أحيت اللجنة أمسية فنية في بيروت، مثّلت خلالها مسرحية “يوليوس قيصر” لشكسبير، على أن يجمع ريعها لبناء المستشفى، ولكنّ صداماً وقع بينه وبين القنصل الفرنسي في لبنان، أجهض بناء المستشفى، بسبب رفض هذا الأخير تسديد ثمن تذكرة المسرحية، فاعتبر سعاده الأمر إهانة، فوجّه إلى القنصل رسالة شديدة اللهجة، ختمها بالقول: إن زمن الارادات الأجنبية المطلقة، قد انقضى منذ عهد طويل. ولأنّ من يقف في وجه قنصل فرنسا، في ذلك الزمن، كمن يقف في وجه الألهة، أهدر القنصل دمّ سعاده، وبناء على نصيحة من متصرف جبل لبنان، وحفاظا على حياته، اضطر خليل سعاده إلى مغادرة أرض الوطن نهائيا. وعاد إلى مصر في صيف 1905، حيث افتتح عيادة له في القاهرة (الفجالة) لمعالجة الامراض الصدرية والباطنية والزهرية والجراحة، وعيّن عام 1909 طبيبا في “مصلحة الصحة العامة”، و منحه الخديوي عباس حلمي الثاني لقب باشا الا انه لم يستعمله ابدا. أصدر سعاده في القاهرة العديد من المؤلفات (راجع فقرة مؤلفاته). إلا أنّ لعنة الاضطهاد لاحقت د سعاده إلى مصر، إذ غضب عليه الخديوي عباس الثاني، لعلاقته بزعماء المعارضة المصرية، خصوصاً أنّه كان يعمل على ترجمة مذكرات عرابي باشا إلى الإنكليزية، فغادر مصر وحلّ في العاصمة الأرجنتينية (بونس أيرس) في مطلع العام 1914. 

كان د. سعاده من طلائع المهاجرين الى “العالم الجديد”، وصل العاصمة الأرجنتينية في مطلع العام 1914، أمضى فيها ست سنوات، إنصرف خلالها إلى تأسيس الصحف، وانشاء الجمعيات السياسية والأدبية والاجتماعية، التي تعنى بالمغتربين والمقيمين من أبناء وطنه، كما راسل بعض الصحف الإنكليزية. ونورد في ما يأتي أبرز الانجازات التي حقّقها سعاده أثناء وجوده في الأرجنتين:

أولاً: مراسلة جريدة الستاندار اللندنية الانكليزية، كان مراسلها الرسمي، ونشر فيها العديد من المقالات الخاصة بالشرق وأحوال مصر، استهلها بمقال نشر في هذه الجريدة بتاريخ 30 تشرين الثاني 1914، تحت عنوان: “الحرب الأوروبية”. جمع الباحث جان داية مقالات الستاندار في كتاب، عنوانه: “الدكتور خليل سعاده، نتاجه الفكري وجهاده السياسي، مقالات مجهولة في جريدة إنكليزية”.

 ثانياً: أصدر خليل سعاده مجلة “المجلة” الشهرية في 15 ايار 1915 في بونس ايرس، واستمرت في الصدور مدّة خمس سنوات، توقفت على أثر انتقال صاحبها إلى البرازيل، وكان شعارها: صحيفة علمية فلسفية جامعة، أنشئت لتكون صلة بين الأوطان والجوالي اللبنانية والسورية، ولسان حال النهضة العصرية”، راجع جهاد العقل: صحافة الحركة القومية الإجتماعية، الجزء الأول. يروي الأديب داود شكور  أنّ طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، وهو منهم، كانوا يترقبون وصول “المجلة” بمزيد اللهفة ليقرأوا مقالات الدكتور خليل. وكان من أبرز الأبحاث والدراسات التي كتبها السلسلة التي حملت العنوان : “تأخر الشرق وتقدمه”.

ثالثاً: أنشأ “الجامعة السورية” عام 1916 و”الحزب الديمقراطي الوطني” عام 1919 وهو أول تنظيم سياسي بالمعنى العصري للكلمة، في أوساط الجالية في اميركا. وغايته تتركّز على مبدأين أساسيين : استقلال بلاد الشام، إقامة الحكم الديمقراطي العصري، وإزالة الفوارق بين طبقات الشعب، وبسط سلطته على حكومته، وفصل الدين عن السياسة. كان سعاده يردّد: “الاستقلال مع البداوة، خير من العبودية مع الحضارة”.

رابعاً: أسس “نقابة الصحافة السورية”، عام 1915، وهي أول تنظيم نقابي في المهجر كله، وترأسها، ودعا اصحاب الصحف العربية في المهاجر والوطن إلى تأسيس نقابات مماثلة، تتعاون في ما بينها، وتتبادل الخبرات والمعلومات والتقنية، لما فيه إعلاء مجد الصحافة وخدمة الوطن.

خامساً: أسس “الجامعة السورية”، في ت1 1916، “تعنى بالتأليف بين عناصر الجالية، والشؤون الاجتماعية والادبية للمواطنين، والمحاماة عن مصالح الجالية، وتكون نواة للسوريين القاطنين الجمهورية الفضية عموما، وبونس ايرس خصوصا”.

سادساً: أسس في آذار 1917 “لجنة منكوبي سورية”، وغايتها جمع الأموال، من أجل مساعدة منكوبي سورية المتضررين بسبب أعمال الحرب العالمية الاولى. تركزت نشاطات هذه اللجنة على صعيدي استنهاض المهاجرين عبر “المجلة”، وتنظيم الحفلات الخاصة التي كان يجمع ريعها لمنكوبي الحرب في سورية (بلاد الشام).

سابعا: أسس “الحزب الديمقراطي الوطني”، في شباط 1919، وهو أول حزب ذهب إلى وجوب إستقلال سورية استقلالا تاماً عن كل سلطة أجنبية على حدّ تعبير مؤسسه. أمّا غايته فقامت؛ أولاً على مبدأ استقلال سورية (بلاد الشام) وقيام حكومة جمهورية على نسق حكومة اميركا، وثانياً، قيام الحكومة في احكامها على “الطريقة الديمقراطية العصرية” وازالة الفوارق بين فئات الشعب، واعلانه مصدر السلطات، وفصل الدين عن السياسة . عقد سعاده بصفته رئيس الحزب “المؤتمر الديمقراطي الوطني” الاول، عام 1919. “المؤتمر السوري الاول في الوطن وفي بلاد الاغتراب” وهو “الصيحة الاولى المطالبة بحريّة الوطن واستقلاله”.

     ما إن انتهت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حتى قرّر خليل سعاده، الانتقال إلى الولايات المتحدة عبر البرازيل، حيث استقبلته الجالية السورية بحفاوة، وطلبت منه الاستقرار في البرازيل، فاستجاب لطلبها بعدما استقدم أولاده من الولايات المتحدة، وعلى رأسهم أنطون، ووصلوا ساو باولو في 7 شباط 1920 .

     واصل د. سعاده في البرازيل ما قد بدأه في مصر والبرازيل، فأصدر الصحف وأنشأ الجمعيات، ومارس الطبّ، وأخضع نفسه لتجارب طبّية خدمة للإنسانية، فصام أكثر من أربعين يوماً، إلى أن لاقى وجه ربّه عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاما، اهتزّ على أثره الوطن والمغتربات ألماً وحزناً لخسارته.

     ولأنّ الصحافة هي مرآة أخلاق الأمة، وعنوان مجدها، وهدى خطواتها، وهي المرشد الأمين، والناصح المخلص، وهي سيف الوطن إذا نبا سيفه، وترس الشعب إذا ما تثلم ترسه. وهي الوطن تجاه أوطان الأمم، والشعب تجاه شعوب العالم . لأنّ الصحافة كلّ ذلك وأكثر، في نظر د. سعاده، من هنا، فقد بدأ نشاطه الفكري في البرازيل بتأسيس جريدة يومية، أسماها “الجريدة”، فصدر العدد الأول منها في 5 آب 1920، واستمرت بالصدور لمدّة ثلاث سنوات، وأوقفها نزولا عند رغبة نجله أنطون، واستبدلها بإعادة إصدار مجلة شهرية، هي “المجلة”، حيث تولى فيها ابنه انطون مسؤولية الشؤون الإدارية، وتحرير معظم موادها . صدر العدد الأول منها في أول شباط 1923، (راجع نواف حردان: سعاده في المهجر، الجزء الأول).

      وجه سعاده في صدر العدد الاول من “الجريدة” نداءاً سياسياً الى الجالية السورية في البرازيل، بدأه بتحية “مواطنينا الكرام الذين يؤلفون جالية راقية يفتخر بها الوطن ويعدها من أركانه وأغزر موارد عمرانه”، كما حّدد الغرض من انشاء الجريدة على أنّه: “تأدية خدمة للوطن وأبنائه دون سواهم”. وعلى صفحاتها وبتوجيه منه برزت مواهب العديد من المفكرين أمثال ابنه أنطون والشاعرين الياس فرحات ورشيد سليم الخوري. منعت سلطات الانتداب دخول “الجريدة” وكتابات سعاده الى سورية بسبب الحملة التي شنها خليل على فرنسا وسياستها الاستعمارية  في مقالاته تحت عنوان: “سورية وفرنسا اثناء مؤتمر الصلح”. توقفت “الجريدة” في منتصف ك2 1923. كما توقفت “المجلة” عن الصدور في اب 1925، ليتولى سعاده بعد ذلك رئاسة تحرير مجلة “الرابطة” لسان حال “الرابطة الوطنية السورية” من مطلع 1930 حتى وفاته عام 1934. ويذكر أنّ جريدة “الرابطة”، ممثلة برئيس تحريرها د. سعاده، قد نظمت حملة تبرعات عام 1931 لإنشاء تمثال للشهيد يوسف العظمة، بطل معركة ميسلون عام 1920، تكلّلت الحملة بالنجاح، وأرسل التمثال بعد صنعه إلى دمشق ونصب في ميسلون.   ويشهد الأستاذ أكرم زعيتر في كتابه ” مهمة في قارة”: أنّه عندما زار البرازيل عام 1948، لمس في الجالية العربية إجماعا على أنّ د. خليل سعاده كان من أخلص وأعفّ من عرفتهم المهاجر من الأدباء، ويعتبرونه العالم الصوفيّ الأول في البرازيل. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى قضية شغلت اهتمام د. سعاده، منذ تخرّجه من الجامعة الأميركية، ألا وهي السعي إلى إنشاء مستشفى خاص بالأمراض الصدرية، تلك المحاولة التي فشلت أولا في بيروت، كما ذكرنا سابقاً، ومن ثمّ فشلت مجدّداً في البرازيل، على أثر النزاع الذي اندلع بين أفراد الجالية، حول تسمية اسم المستشفى، (للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، راجع : أنطون سعاده: الأثار الكاملة، الجزء الثامن، ص 15: شعب منقسم على ذاته: عبرة المستشفى السوريّ).

   توفي د. سعاده، وهو يحمل لقب العلامة لكثرة علمه، في العاشر من نيسان 1934، في ساو باولو، عن عمر ناهز السابعة والسبعين، بعد صيام استمرّ ثلاثة وأربعين يوما أراد منه أن يختبر الصوم كعلاج لبعض الأمراض، وقد فاجأه الموت في اليوم الخامس من عودته عن الصيام، ولم يترك له فرصة أن يسعف نفسه، وهو الطبيب المشهور. عمّ الحزن الوطن والمهاجر على وفاة د. سعاده، فأعلنت “الرابطة الوطنية السورية” الحداد، وتصدّرت الصفحات الأولى من الصحف الوطنية والمهجرية خبر الوفاة، ودبّجت المقالات التي تنوّه بالفقيد ومآثره، وأقيم للفقيد مأتم مهيب، كما أحيت “الرابطة الوطنية السورية” ذكرى الأربعين في 6 تموز 1934 في ساو باولو. وصدر كتاب “الرابطة” العدد 106 في البرزيل عام 1971، قدم له نواف حردان، ويضم أهم مقالات د. سعاده السياسية التي نشرت في جريدة “الرابطة” و ومجلة “المجلة”، وهاجم فيها دولتي الانتداب، اللتين تآمرتا على الشعب السوري في توقيع معاهدة سايكس- بيكو واصدار وعد بلفور المشؤوم، … كما يضم الكتاب نبذة عن حياة سعاده تحت عنوان “ترجمة د.خليل سعاده”. وأزيح الستار عن تمثاله في ضهور الشوير في 13 أيلول 1981 ، وهو تقدمة من الجالية في البرازيل، ومن صنع النحات عارف أبو لطيف ابن بلدة عيحا – راشيا. كرّم “تجمع النهضة النسائية” – فرع الشوير د. خليل سعاده في إطار “عيد المغتربين” لصيف 2002. 

    ونختم مقالتنا بهذه الصلاة القومية للعلامة خليل سعاده، لعلّها تكون عبرة للجميع: “يا بني وطني، لنتحد ولو مرّة واحدة في سبيل أقدس واجباتنا لوطننا. ولنتقدم إلى هذا الوطن العزيز، ونقول: يا وطننا المقدس، لقد فرّقتنا التعصبات الدينية، وأفضت بنا إلى المنازعات السياسية والمشاحنات الاقليمية والاضطرابات الطائفية. أمّا الآن وقد انفتحت أعيننا وبزغ فجر عصر جديد، فإننا نقسم بك أنّنا نتحد إتحادا منظماً، وأن لا نختار لخدمتك إلا من نعتقد به الكفاءة لها والإخلاص لك.. نقسم بك أنّنا نربّي ذريتنا تربية وطنية.. أبانا الذي على الأرض، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك فينا كمشيئة الله في السماء. روح الاتحاد أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرير، لأنّ لك الملك والقوّة والمجد، إلى أبد الأبدين، آمين.

     ترك العلامة د. خليل سعاده، مجموعة من المؤلفات الأدبية والعلمية، إلى جانب بعض الترجمات، ومن أبرز مؤلفاته:

1 – الطوالع السعدية في آداب اللغة الانكليزية. وهو عبارة عن دليل لتعليم اللغة الانكليزية بدون معلم. نشرته المكتبة الشرقية في القاهرة عام 1886.

2- رواية مراد او الامير السوري. وهي بالانكليزية عام 1892، طبعت  في القاهرة عام 1892. ترجمت الى العربية عام 1981 بعدما عثر عليها صدفة الباحث بدر الحاج في مكتبة المتحف البريطاني عام 1978. وهي قصة شرقية تحتوي على اهم العادات والتقاليد في لبنان وحوران.

3- رواية قيصر وكليوبترا. كتبها اثناء زيارته للشوير عام 1895 طبعها في لندن عام 1898 نقلها الى العربية ونشرها في ساو باولو 1925. وفيها ينتقد رواية شكسبير. لعبت على مسرح كازينو ساو باولو سنة 1928، قدّمها سعاده بقوله: “إنّ تأويلي لمصرع يوليوس قيصر، غيّر حكم التاريخ في هذه القضية”.

  4- كتب في مصر ثلاث روايات: انطونيو وكيلوباترا. واسرار الباستيل. والشركسية الحسناء. (اعتبرت مفقودة).

5 – أسباب الثورة الروسية، عام 1906.                    

  • الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه، عام 1906. 
  • ترجمة ” انجيل برنابا ” : طبع في القاهرة عام 1908 وصدرعن مجلة المنار. يختلف هذا الإنجيل عن بقيّة الأناجيل القانونية المنحولة، أثار الكثير من النقد والشك والتأويل. رفض اللاهوتيون المسيحيون هذا الإنجيل، في حين رحّب به بعض الفقهاء المحمديين.
  • ” قاموس سعاده ” : يقع في مجلدين من الحجم الكبير(1765 صفحة)، طبع في القاهرة 1911، وهو كما عرّفه المؤلف : “معجم إنكليزي عربي، محيط بمواد اللغة الإنكليزية وموضعاتها العلمية والفنية، ابتكر فيه المؤلف أوضاعا عربية شتى في جميع العلوم والفنون العصرية، سدّا لحاجة طلبة المدارس وغيرهم من طلاب العلم والأدب”، ووصفه بأنه أكبر قاموس من نوعه في العالم.
  • المعجم العربي المطوّل، وعنه يقول سعاده: إنّه معجم عصري، لم ينسج على منواله أحد، ولا يستغني عنه طالب أو كاتب او مترجم أو أديب أو محام أو طبيب أو غيرهم، كما يذكر أنّ تنضيد حروفه وطبعه استغرق سبع سنين.


ثانيا: في أمريكا     

  حركة الإبداع اللبناني في المهاجر لم تعرف حدودا، فهي قد تخطّت حدود الدول، والقارات، متغلبة على الصعاب والمشقات، لم تثنيها عن أهدافها صعوبة اللغات، ولا وقفت عائقا في طريقها التقاليد والعادات… وكما في جنوب القارة الجديدة، فقد شعّ إبداع اللبنانيين في شمالها، في الولايات المتحدة وكندا.                                                                                                                                                    

في الولايات المتحدة  

    عالمان علمان كبيران يختصران هجرة الأدمغة اللبنانية إلى الولايات المتحدة، وهما إبن الجنوب حسن كامل الصباح ، وإبنة المتن الشمالي سلوى نصار؛ الصباح، صاحب الأدمغة الخمسة الذي ما زال حتى يومنا يتصدّر طليعة عباقرة أمتنا إلى العالم، وهو الوحيد الذي تجرأ على انتقاد آينشتاين. وسلوى نصار، عالمة الذرة الأولى والوحيدة في زمانها والتي اتهمت بالمشاركة في اكتشاف القنبلة الذرية وتفجيرها.

بطاقة: حسن كامل الصباح (1895-1935)

  بين ولادته في النبطية في العام 1895، واستشهاده في نيويورك سنة 1935، أربعون عاما من العطاء وإبداع في مجالي العلم والإصلاح، إنّه النابغة العبقري حسن كامل الصباح، صاحب الدماغ، الذي لا ينام، ويعمل دائما، وهو يحتوي على خمسة أدمغة معا، كما يقول أحد زملائه الذين عرفوه عن قرب وعملوا معه. وفي شهادة لعالم آخر، يقول: “كان الصباح بيننا كالمعلم بين أطفاله، يلعب بآرائنا ونظرياتنا كما يشاء، والصباح هو العالم الوحيد الثائر الذي تجرأ على مناقشة آراء  آينشتاين الرياضية وانتقادها، والتحدث عن النسبية كأنّه آينشتاين نفسه على حدّ تعبير زميله المهندس ك. ستون. كامل الصباح المعلم الجريء، صاحب الأدمغة الخمسة المستيقظة دائما، التي لا تعرف  الراحة ولا تنام، وهب العالم في حياته العلمية القصيرة أكثر من 76 إختراعا، غيّرت وجه التاريخ، في فترة قياسية، لا تتجاوز الدزينة من السنين، ليثبت للعالم الغربي، وهو الذي كان يرغب بالإتيان بعمل عظيم، أنّ الشرقيّ يمكنه أن يقوم بجلائل الأعمال لخدمة المجتمع الإنساني وهو الذي كان يفتخر دائما بانتمائه القومي والعربي، ويحضّ الناس على التمسك بالقيم والمناقب، ويدعو إلى الإصلاح عن طريق التثقيف، وطلب العلم واكتشاف الحقائق العلمية الكونية، من أجل خدمة الإنسان وتحسين حياته، والتقدم به نحو الأجمل والأكمل والأفضل.

     حسن كامل الصباح، وقد غلب عليه اسم كامل الصباح، نشأ في أسرة تجري في جذورها وعروقها دماء العلم والأدب، فوالده ينتسب إلى أمير الكويت الأول الشيخ الصباح المتحدر من سلالة الفيلسوف الرياضي الشهير يعقوب بن الصباح، الذي عاش في أوائل عهد الدولة العباسية؛ فأبو كامل كان المربي الذي غرس في روحه قيم العزة والكرامة الأصيلة، يقول الصباح: “كان أبي كثير التعامل مع سكان البادية الشامية، وكان في أحاديثه عنهم عاملا قويا، في تثبيت مثلهم العليا، ومنازع نفوسهم الطموحة وإبائهم وشيمهم وسخائهم على صفحة دماغي”. أمّا والدته فكانت المدرسة التي لقنته آداب العرب وفتحت ناظريه على أمجادهم وروادهم وعطاءاتهم الثقافية،  وأيقظت في وجدانه الشعور بوطنيته، وأطلقت طموحه العلمي، متأثرا بالفيلسوف السوري الكبير أبو العلاء المعري وعن أمه قال الصباح: “أمي وشقيقاتي مولعات بآداب العرب وأشعارهم ونوادر عظمائهم، فأصبحت أنا بحكم الطبع أنظر إلى آداب العرب وعلومهم نظرة طموح وأمل، وكان ذلك مبدأ قوميتي وطموحي العلمي. وما زلت أذكر النصف الأخير من ليالي رمضان، حيث كانت أمي تجلس في فناء الدار، وتحدثني عن أمجاد العالم العربي، منذ عهد الأمبراطورية الأولى إلى عهدنا الحاضر، وأنا أردّد أبيات أبي العلاء المعري، وأبحث عن النجوم، التي ذكرها في قصائده، وهكذا بدأ هيامي بدرس الكون وحقائقه”.

     أطلّ الصباح على القرن العشرين، وهوفي السادسة من عمره، حيث ظهر ميله المبكر الواضح إلى الرياضيات، ومن المدرسة الإبتدائية في قريته، بدأ بدرس الجبر والهندسة على نفسه، وهو لم يبلغ الرابعة عشرة ربيعا، فنال إعجاب معلميه، خصوصا أنّه الأول دائما بين أترابه، ويصف الصباح تلك المرحلة التأسيسية من حياته، بأنّه كان متأخرا في المواد التي تحتاج إلى إستظهار كالجغرافيا والتاريخ، إلا أنّه كان متفوقا في الحساب والرياضيات والشعر والنحو، دون أن يحتاج إلى أي عناء.  وما لبثت أن ظهرت علائم نبوغ الصباح وعبقريته في المدرسة “السلطانية” في بيروت، وهو في الثامنة عشرة من عمره، حيث أمضى فيها أربع سنوات ( 1908-1912)، محتكرا فيها المرتبة الأولى في صفوفها، وحيازة الجوائز التي كان يقدمها الوالي التركي للمتفوقين من طلبتها، حتى أنّه كان يقدم المساعدة في حلّ المسائل العلمية الشديدة التعقيد، لطلاب السنة الخامسة، وهو لم يزل في السنة الإعدادية الأولى . في تلك الفترة الطفولية من حياته أقدم الصباح على مطالعة الكتب والمجلات العلمية والأدبية، وفي مقدمتها: “المقتطف”، و”العرفان” الزاخرتين بالأبحاث العلمية والأدبية القيمة، وكان خاله الشيخ أحمد رضا وعمه الشيخ سعيد الصباح يزودانه باعدادها، وفي هذا المجال، يذكر الصباح: “نشأت وأعداد مجلة المقتطف حولي يقرأها عمي وخالي وأهل البيت بإعجاب، وكنت كلّما قرأت بعض المقالات العلمية، أعثر على عدّة تعابير رياضية، لا أفقه لها معنى”. وحتى يكتشف الصباح ما استعصى عليه، وهو العبقري الذي لا يستسلم، استنبط الحلّ المناسب لمشكلته، معتمدا على نفسه، فاقتصد في مصروفه، واشترى الكتب العلمية المناسبة لطموحه، ومن بينها: الجبر لـ فانديك، وترجمته لكتب أقليدس. وأصول الطبيعيات لـ أسعد الشدودي ، وقرأها، وعندما رأى أنّ الكتب العربية والتركية في الرياضيات لا ترضي فضوله العلمي المتقدم، قرّر الإستعانة باللغات الأجنبية، فبدأ بالإفرنسية كي يدرس كتاب “حساب التفاضل” لـ للرياضي الفرنسي الشهير ستورم. وعندما كان يواجه صعوبة في فهم بعض معادلاته، لضعفه في اللغة الفرنسية، لم يتراجع أو يستسلم بل يعمد إلى إغلاق الكتاب، ومعالجة النظريات فيه، دون العودة إليه، وغالبا ما كان يتوصل إلى النتائج المرجوة، حسب قوله، ليخلص إلى الإستنتاج من تلك التجربة، بقوله: “إنّ الرياضيات والمنطق هما خواص ثابتة في العقل البشري، وما تعلم الرياضيات إلا لإكتشاف تلك الخواص “. وكم كان فرحه عظيما عندما قرأ رأيا مشابها للعلامة الفلكي الإنكليزي أدينغتون.

    وبالرغم من حالة العوز المادي الذي كان يعاني منها الصباح إلا أنّ ذلك لم يمنعه من الإنتقال لمتابعة دراسته الجامعية، في الكلية الإنجلية السورية، الجامعة الأميركية، التي شهدت تفوّق هذا الطالب الجديد في مادة الرياضيات، حيث كان يشارك أساتذة الصفوف العليا في حلّ المسائل الرياضية المعقدة، وعندما وقفت اللغة مجددا في وجه طموحه العلمي الجامح، أقدم على دراسة الإنكليزية واتقانها في مدّة ستة أشهر، ليتفوّق في دراسته الجامعية، في إختصاص الهندسة الكهربائية، وهذا ما أثار إنتباه العالم والصحفي فؤاد صروف، فكتب عنه في مجلة “المقتطف، ما يأتي: “جاء الجامعة.. في السنتين الأوليتين (1914-1916)، من سني الحرب الأولى، طالب علمي، أسمر اللون، أسود الشعر، عالي الجبهة، برّاق العينين، ولم يلبث قليلا حتى شاع بيننا، أنّ الطالب الجديد شيطان من شياطين الرياضيات، فإنّه لم يترك فرعا من فروعها إلا وأقبل عليه يدرسه بلهفة وشوق، حتى شهد له أساتذته بالبراعة والتفوّق فيها.

لم يتمكن الصباح من متابعة دراسته الجامعية، لأنّ الحرب العالمية الأولى نقلته من جبهة العلم، إلى مواقع القتال، فاستدعي إلى الجندية في نهاية شهر شباط من العام 1916، وأدخلته القيادة العامة التركية في سرية التلغراف المتمركزة في منطقة كيشان التركية-الأوروبية، لعلمها بذكائه. ومرّة جديدة يثبت الصباح وعلى جبهة القتال أنّه طالب علم وطموح لا حدود منظورة لهما، فاستغل وجوده في موقع التلغراف، ليتابع أبحاثه في ميدان الهندسة الكهربائية، وتشاء الصدف أن يعمل تحت قيادة ضابط إلماني، ممّا أفسح المجال أمامه لتعلم اللغة الإلمانية والإطلاع على أحدث ما توصل إليه العلماء الإلمان في الرياضيات والطبيعيات. وما لبث أن تسلّم قيادة الفرقة مكان الضابط الإلماني (بوخر)، الذي تخلى له عن منصبه نتيجة نجاحه في إصلاح عطل طرأ على إحدى الألات اللاسلكية، بعدما فشل بوخر مع زملائه المهندسين  من إصلاحه.

     إنتقل الصباح بعد نهاية الحرب الأولى إلى دمشق، حيث التحق بالتعليم في وزارة المعارف السورية، مدرسا لمبادئ الرياضيات في “المدرسة السلطانية”، بين عامي 1918 و1921، إلا أنّه في الوقت ذاته، توصل من خلال دروسه الخاصة، إلى ذروة “فلسفة التحليل الرياضي”، متأثرا بأبحاث العلامة الفرنسي غورسا . ترك دمشق على أثر تداعيات معركة ميسلون سنة 1920، والتحق مجدّدا بالجامعة الأميركية في بيروت في العام 1921، مدرّسا لمادة الرياضيات في الصفوف الثانوية، وانتسب إلى نادي “العروة الوثقى”، حيث تبلوّرت ثقافته الوطنية. وعندما فشل في مساعيه لتنفيذ مشروعه الخاص بنهر الليطاني، وعدم قدرته على متابعة دراسته في الجامعة، لأنّ إدارتها ألغت “فرع الهندسة الكهربائية”، الخاص بمجال تخصصه، إتخذ الصباح قراره التاريخي بالهجرة، إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهدفه التفوّق في مجاله العلمي، فكتب إلى خاله أحمد رضا رسالة بتاريخ 16 تشرين الأول 1921، يطلعه فيها على رغبته في السفر ومتابعة دراسته، وممّا ورد فيها: “إنّ بقائي هنا بدون شهادة ، يُضيّع كلّ أتعابي ويُميت معنوياتي، فلا أرى بدّا من الذهاب إلى ديار الغرب، فإنّ سنتين فقط تكفيان لأكون أقدر مهندس بين مهندسي هذه الديار”.

       غادر الصباح بيروت بالباخرة في نهاية شهر آب، ووصل نيويورك، بعد شهر والنصف من الإبحار، والتحق في العام الدراسي في نفس السنة، بمعهد ماساشوستس، الذي كان يعتبر في حينه من أهم معاهد الهندسة في العالم، حيث كانت تجري فيه أكبر التجارب الذرية، وما لبث أن تركه بعد ستة أشهر بسبب ضائقته المادية، علما أنّ “جمعية الشبيبة السورية”، كانت قد قدمت له مساعدة مالية لمتابعة دراسته.

   إلتحق الصباح، بعد ذلك، في قسم الفيزياء العليا في جامعة اللينوس، بعد أن تأكدت إدارتها من جدارته، وفيها درس مادة “المواضيع العلمية”، نال بنتيجتها شهادة معلم علوم في الهندسة، وترك الجامعة في 10 آب 1923، ولم يحصل منها على أيّة شهادة جامعية، إلا أنّه حاز على إفادة: “تلميذ ذو مقدرة وكفاءة لا مثيل له، متعمّق جدا، ومثقف ثقافة جذرية في مواضيع الفيزياء العامة، وهو ذو خبرة وتدريب، ممتاز جدا في حقل الرياضيات العليا، وقد كيّف نفسه  تكييفا حسنا بالنواحي التجريبية في الفيزياء”.

 لم تمض عشرة أيام على مغادرة الصباح الجامعة، حتى بدأ العمل في أهم شركة للكهرباء في العالم هي “جنرال الكتريك”، في نيو يورك، كمعاون طبيعي في قسم الأنابيب الكاثودية في المختبر الهندسي العام، براتب لا يتجاوز الخمسة والعشرين دولارا أسبوعيا، مع تعهد بأن تكون جميع إختراعاته ملكا للشركة، لقاء مكافأة رمزية قيمتها دولار واحد عن كل إختراع، وقد علّل الصباح هذا الأمر، برسالة منه إلى خاله، جاء فيها :”وأكتسب في الشركة خبرة عملية، إذ أُضيفت إلى معارفي النظرية تكفي لاعتباري كحامل شهادة مهندس في نظر المدرسة، وأقتصد  من راتبي الذي أقبضه من الشركة، ما يكفي لمصاريفي ونفقات المدرسة مقدار سنة أو أكثر، فأدخل حينئذ الفرع العالي، المسمى فرع الخريجين”.

   وسريعا، بدأ نجم الصباح يلمع في الشركة، فبهر العالم بعلمه ونبوغه، وأكّد كبار العلماء، أنّه عبقري، يأتي في طليعة الرواد الذين يشقون الطريق الجديدة في مجاهل العلم، من أجل تحسين الحياة، ورفع مستواها نحو الأفضل . وتمكّن بعد عقد من الزمن أن يستنبط الكثير من الأجهزة والألات الجديدة في عالم الكهرباء، وقد توصل إلى تحقيق 76 إختراعا، منها 15 بالتعاون مع زملائه في الشركة، وهي في حقول الطاقة الشمسية والتلفزة وتحويل التيار الكهربائي، إضافة إلى وضعه العديد من الأبحاث النظرية في الرياضيات والكهرباء.

 كان الصباح يتطلع إلى وضع نظرياته وإختراعاته في خدمة الإنسانية عموما، ومصلحة بلاده خصوصا، وهو لا ينوي أن يقتصر همّه على توليد الكهرباء فقط، بل أراد أن يستخدمها لتأسيس المصانع في وطنه الأم، وإقامة المشاريع الضخمة، والسعي إلى إنشاء مصنع للطائرات، كخطوة كبيرة لتدعيم كياننا القومي، على حدّ تعبير الشيخ خليل بزّي، في حديثه إلى جريدة “السفير”، 3 نيسان 1987. وكان الصباح قد اشترى طائرة خاصة للقيام برحلة إستكشافية للبلاد العربية في العام 1935، إلا أنّ الموت كان له بالمرصاد، فقتل، بل الأصح قد استشهد في حادث سير غامض، يوم الأحد 31 آذار 1935، وهو في الأربعين من عمره، وفي قمّة عظمته وعطاءاته، “عبقري من أولئك العباقرة، الذين خلقتهم أمتنا، وأبدعتهم خلال تاريخها العظيم”، كما يقول  العالم يوسف مروة، في كتابه :”كامل الصباح، عبقريّ من بلادي”.

  نُقل جثمان الصباح من مرفأ نيويرك في الثامن من آيار، على متن الباخرة اليونانية “بيرون”، فوصل مرفأ بيروت بعد عشرين يوما، واحتفل رسميا وشعبيا، بنقل رفاته إلى مسقط رأسه النبطية، في نهاية شهر آيار، ووري في تراب وطنه في الأول من حزيران، بعد أن غادره في نهاية شهر آب 1921. حيث أعطى هذا العالم النابغة في أربعة عشر عاما، ثروة عظيمة لا تنضب ولا تجف، مهما تقدم الزمن، لأنّ دماغ الصباح مقيم في الزمن حتى نهايته . ولكن السؤال يبقى يحيّر العقول: هل في موت الصباح جريمة مدبّرة؟ 

    يوسف مروة، في كتابه:”كامل الصباح، عبقري من بلادي”، يورد بين الصفحتين 105 و 109، سبع فرضيات في إمكانية أن يكون الصباح، قدد مات قتلا:

  • كان الصباح يعمل من خلال إختراعاته على هدم النظام الألي ، ممّا يسبب خسارة كبيرة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى في أوروبا وأميركا.
  • كان الصباح يخطط لكهربة الحياة في مختلف نواحيها، وهذا خطر عالمي، يزيد في أزمة البطالة في أوروبا وأميركا .
  • كان الصباح يعمل على تهديم الأساس القديم في حقلي الميكانيك والكهرباء، وبناء أساس جديد، مما يؤدي إلى خسارة عظيمة جدا، بالنسبة للرأسماليين الكبار من أصحاب الشركات .
  • لو بقي الصباح حيّا وأكمل إختراعه الأخير في “تحويل نور الشمس إلى كهرباء، وقوّة محرّكة”، لكان ذلك الإختراع حجر الزاوية في الاقتصاد العالمي.
  • كانت “شركة جنرال إلكتريك” تتخوّف من إقدام الصباح على استخدام المعلومات السرية التي لديه وتسخيرها في خدمة بلاده.
  • التناحر الشديد بين الشركات الكبرى على إستخدام الصباح، وإغرائه بالرواتب المرتفعة، ويظهر هذا الأمر من خلال رسائله إلى والده.
  • الصراع بين الصباح وشركات البترول الأميركية التي كانت تسعى للتنقيب عن البترول في السعودية، في الوقت الذي كان فيه الصباح يحاول إقناع الملك السعودي عبد العزيز أل سعود، باستخدام نور الشمس في تشغيل الالأت والمصانع.

    لم يكن الصباح متفوقا في العلوم الطبيعية والرياضيات فقط، بل كان صاحب ثقافة أدبية واسعة لامست حدّ المصلحين الإجتماعيين. كان مؤمنا بعروبته وهو إبن النبطية، وعندما بلغ القمة في إختراعاته، قرّر العودة إلى بلاده، ليسخّر عبقريته وعلمه في سبيل مصلحتها.

تبحّر الصباح في اتقان اللغات الحية: العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية، وكان يلم باللغتين اليونانية والروسية. وقد ترك العديد من الأبحاث القيمة في علم الإجتماع والتاريخ والفلسفة والأدب، كما نشر المقالات العلمية والأدبية في الصحف العربية والأميركية والأوروبية . وذاع صيته بين الجاليات في الخارج، وتصدّرت أخباره الصحف الإغترابية، فكتب الفيلسوف إيلي أبو ماضي في مجلته “السمير”، في عددها الصادر في 15 حزيران 1929: “جئنا، لندلّ قومنا على نابغة سوري كبير، على نبي في غير أمته وبلاده، على عبقري، لو كان فرنسويا أو إنكليزيا أو أميركيا، لكان اسمه الآن ملء الافواه، وسيرة حياته ملء الكتب، هو حسن كامل الصباح، السوري العربي، الموظف في شركة الكهرباء العمومية في بلدة سكنكتدي من ولاية نيويورك”.

     لقد قيل الكثير الكثير عن هذا النابغة العبقري، وقد قامت “لجنة الصباح الوطنية”، بجمع حوالي خمسين شهادة قاله فيه جمع من العلماء والفلاسفة والأدباء، في كتاب عنوانه: “العالم المخترع حسن كامل الصباح”، صدر في الذكرى المئوية الأولى لولادته (1895-1995)، ونختار من بينها هذه الشهادة، التي وردت في كلمة د. مصطفى خالدي، في ذكرى أربعين الصباح، يوم الجمعة 11-5-1935، قال خالدي: “هذا هو الرجل الذي قدره الأميركان، قبل أن نعرف نحن فضله، نحن أبناء وطنه. هذا هو الرجل الذي وضع العلم فوق المذاهب والسياسة والمادة، ولم يتقيد شأن العلماء والمخترعين بإقليمية او قومية. هذا هو الرجل الذي لو بقي بيننا، لما استطاع الوصول إلى مثله العليا، أو تحقيق شيء من أهدافه السامية، وكم كانت هذه البلاد مقابر تُدفن فيها مواهب الرجال”؟!       

  • بطاقة سلوى نصار

في السادس من آب عام 1945 ألقت الطائرات الأميركية القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونيغازاكي في اليابان مخلفة 214000  قتيلا و270000  مشوها، مع إزالة تامة للمدينتين من الوجود. خمسة وستون عاما مرّت على جريمة القرن العشرين، وما زال السؤال، كيف نجحت واشنطن في تحويل أبحاث العلماء في “نظرية الإشعاع”، ومنها السيكلوترون، من المجالات العلمية السلمية، خصوصا في حقل الطبّ، إلى استخدامها في صناعة القنابل التدميرية. وما علاقة أبحاث عالمة الفيزياء النووية ابنة الشوير سلوى نصّار، في مجال تفجير القنبلة الذريّة؟

 من هي سلوى نصار؟ التي قيل فيها، إنّها عالمة الذرّة الأولى والوحيدة في زمانها، وأول سيدة عربية تخوض معركة تفجير الذرة، وتقف عل أسرارها، وتعمل معاونة لأعظم علماء الفيزياء، وفي مقدمهم الأستاذ لورنس مخترع آلة تفجير الذرة (السيكلوترون). كما تمّت الإشارة إليها على أنّها شاركت في أبحاث انتاج القنبلة الذرية! أثناء وجودها القسري في الولايات المتحدة الأميركية وعملها في مختبراتها النووية، في فترة الحرب العالمية الثانية(1939-1945)؟

    سلوى نصار هي إبنة بلدة الشوير التي أنجبت العلماء والمفكرين والفنيين والقادة في السياسة وعالم الاغتراب. أطلّت سلوى على الدنيا في مطلع العام 1913، وتميّزت منذ صغرها بالذكاء الحاد، وتفوّقت في دراستها ما قبل الجامعية بمادتيّ الرياضيات والفيزياء. وكانت الطالبة الوحيدة التي دخلت “الكلية السورية” (الجامعة الأميركية) في العام 1933 وتخرجت منها بعد ثلاث سنوات بدرجة بكالوريوس علوم بامتياز. وانصرفت، بعد ذلك، إلى تدريس مادة الرياضيات في ثانويتي بير زيت في فلسطين، والموصل  في العراق. 

    في 7 آب 1939 سافرت سلوى إلى أميركا لمتابعة دراستها. التحقت بكلية  سميث للبنات في ولاية ماساتشوستيس، ثمّ بجامعة كالفورنيا في بركلي حيث حصلت عل شهادة دكتوراه في الفيزياء. ثم علّمت في الجامعتين المذكورتين، وكانت ترغب في العودة إلى وطنها سريعا، وهي القائلة: “تعزيتي أنّها سنة وتمضي” ! إلا أنّ الحرب قطعت عليها الطريق فاستقرت لمدّة ست سنوات قسرا في أميركا حتى انتهاء الحرب، وهناك لمع اسمها، كأهم عالمة في تخصصها الذريّ على الصعيدين العالمي والعربي؛ فسلوى نصار، كما جاء في مجلة “السمير”، التي كان يصدرها ايليا أبو ماضي: فتاةمن لبنان معاونة عالم الفيزياء المشهور لورنس مخترع آلة تفجير الذرة  (السيكلوترون). وهي كما قالت عنها الأديبة إميلي نصرالله:  “عالمة الذرّة الأولى والوحيدة في زمانها، لا في لبنان وحسب، بل وفي شرقنا العربيّ بأسره  كما كانت تعدّ تاسع إمرأة في تخصّصها على المستوى العالمي”. وهي كما قيل عنها :”أول عربية تخوض معركة تفجير الذرة وتقف على أسرارها …” و”أول سيدة يعهد إليها بمركز رئاسة دائرة الفيزياء في الجامعة الأميركية” في مطلع الستينات و”أول سيدة تنتخب رئيسة لكلية بيروت للبنات” عام 1965.

     العالمة سلوى نصار في أميركا. نتعرّف على مرحلة وجود سلوى نصار في أميركا من خلال رسائلها إلى والديها وشقيقتها مرسال، ومن سيرتها الذاتية التي دوّنتها بنفسها، ومن شهادات الذين عرفوها، خصوصا أساتذتها من العلماء.

    تروي سلوى في رسائلها: تفاصيل رحلتها البحرية من بيروت إلى نيويورك التي استغرقت عشرين يوما (بين 7 و 27 آب)، كما تتحدث عن دراستها ونشاطاتها وعلاقاتها بالعلماء، الذين درست عليهم، أو عملت معهم في المختبرات والأبحاث والجامعات.

   وتقصّ سلوى سيرتها الموجزة في أربع صفحات كتبتها في صيف العام1945، بناء على طلب من معلمتها ونفريد شانون. نشرت، هذه السيرة، صديقتها نجلا عقراوي في كتابها “سلوى نصار كما عرفتها”، وفيها تذكر سلوى، أنها بعد نيلها الماجستير في الفيزياء،  في كلية سميث للبنات التي كانت تضمّ 2200 طالبة، أجرت بحثها باشراف الاستاذين البارعين العالم كيرسلو والعالمة يوينغ. وهي تحسب سنتها الدراسية الاولى كمقدمة ناجحة ومشجعة للسنوات الخمس التي قضتها في الدراسة والتعليم، وتروي أنها زارت الجامعات والمعاهد العلمية الكبرى، وتعرّفت على كبار علماء الفيزياء، ومن بينهم العالمان الحائزان على جائزة نوبل (ميلليكان و أندرسون)، كما تذكر أنّها ألقت، في تلك الفترة، العديد من المحاضرات حول مأساة فلسطين.

   ولما لم تتمكن من العودة إلى الوطن في العام 1940، اتجهت لمتابعة دراستها لنيل الدكتوراة؛ دخلت جامعة كاليفورنيا حيث احتلت مركز الصدارة في علم الفيزياء، بعد تلقيها المساعدات المالية من بعض الجامعات الأميركية المعروفة. وكان مجرّد قبولها فيها من حسن حظها، على حدّ قولها، لانها درست على يدّ علماء كبار منهم  اوبهايمر، سايغر، الفاريز، ماكميلان، لنزن، وليمز، هايزن، ولورانس الذي اعتبرته  من أهم الفيزيائيين في العالم وهو مخترع السيكلوترون (cyclotron) أي آلة تفجير الذرّة، وكان يعمل، في الوقت ذاته، على بناء سيكلوترون متطوّر يولّد مئة مليون فولط.

    بالرغم من النجاح الذي لاقته سلوى في ما تعلمتّه في الكتب، وفي دراساتها وأبحاثها النظرية، إلا أنّ سعادتها تمحورت حول الإختبارات التي نالتها  في نشاطاتها التدريسية والتطبقية، يظهر ذلك من بعض الإشارات التي وردت في رسائلها إلى شقيقتها مارسال، وهي على سبيل المثال لا الحصر: تدريس مقررين في الفيزياء في كلية سميث أحدهما في المختبر، في معالجة مشاكل الراديو والإلكترونيك والفيزياء النووية والإشعاع  الكوني.. وأدارت حلقة دراسية نصف شهرية في الفيزياء، وكانت تحضر الاجتماعات السنوية “للجمعية الفيزيائية الأميركية” في جامعة كولومبيا، كما عملت سلوى مدرّسة في برنامج التدريب البحري، وكان معظم طلابها من رجال البحرية. إضافة إليه فقد أستمرت في أبحاثها الشخصية عن الاشعاع الكوني، كون موضوع بحثها حمل العنوان: “رشّات الأشعة الكونية” وهو قريب جدا من حقل الأبحاث الذرية والنووية الذي أثار اهتمامها وشغفها، على حدّ قولها.

       بعد وفاة سلوى نصار في مطلع شباط 1967، تمّ تكريمها بأنشطة متعدّدة، من بينها:

  1. حفلة تكريمية في الاذاعة اللبنانية دعت إليها الأديبة ادفيك شيبوب،  تحدث فيها : وزير التربية الوطنية سليمان الزين، د. اكرام حفار رئيسة جمعية الجامعيات اللبنانيات، د. انطوان زحلان، رئيس دائرة الفيزياء في الجامعة الاميركية في بيروت، الاديب مخايل نعيمه، الاب ديبريه رئيس معهد الطب في جامعة القديس يوسف.
  2. 2-                إعلان كلية بيروت للبنات عن” منحة سلوى نصار التذكارية” تعطى لطالبة متفوّقة بالعلوم .
  3. 3-                إطلاق جمعية السيدات الثقافية في ضهور الشوير ، اسم “مكتبة سلوى نصار” على مكتبتها العامة في المركز الصحي.
  4. 4-                رفع صورتها وهي بريشة الفنان عمر الانسي، في قاعة الشرف التابعة لدار الكتب الوطنية، في 3 آيار 1968 ، وهي المرأة الثالثة التي تحظى بهذا الشرف بعد الشاعرة وردة اليازجي والأديبة ميّ زيادة.
  5. 5-                اطلاق اسم “شارع سلوى نصار”، من قبل بلدية بيروت على إحدى شوارع الرملة البيضاء في شهر آيار 1968.
  6. كما قرّر المجلس الوطني للبحوث العلمية إطلاق اسم سلوى نصار على المتحف العلمي الأول الذي سينشئه تخليدا لذكراها.
  7. 7-                وخصّصت جمعية متخرجات كلية بيروت للبنات إحدى نشراتها الصادرة في ربيع 1967 تخليدا لذكرى الرئيسة الراحلة سلوى نصار.
  8. 8-                في 8 كانون الأول 1967، وبناء على “وصيتها” تمّ الاعلان عن إنشاء “مؤسسة سلوى نصار للدراسات اللبنانية”، وقد صدر عنها المنشورات الاتية :  مصادر الثقافة في لبنان (1969)، بيروت ملتقى الحضارات (1970)، دور لبنان في العالم العربي (1974).
  9. وكرّمها “تجمع نساء النهضة” في ضهور الشوير في سياق “مهرجان عيد المغتربين” في صيف 2000 ، وأصدر كتيبا خاصا بهذه المناسبة.

    شهادات في سلوى نصّار: خصّ سلوى نصّار العلماء الذين أشرفوا على تدريسها أو العمل معها بشهادات حيّة تظهر أهمية هذه العالمة ودورها في مجال الأبحاث النووية التي كانت في طور نشوئها في ذلك الوقت:  رئيس دائرة الفيزياء في جامعة كالفورنيا ريموند برج قال “كانت من خيرة طلابنا.. وبقيت الى حين تقاعدي في العام 1955 طالبتنا الوحيدة من لبنان”. استاذ شرف في جامعة بركلي فكتور لنزن: كانت سلوى عضوا بارزا في مقرر الديناميكا المتقدم الذي كنت أديره، ومن ألمع الطلاب الذين عرفتهم بانجازاتها الفكرية وشخصيتها الجذابة، وكانت مساعدة أمينة في مهمة التعليم التي أسندت إليها خلال الأيام الحرجة في مرحلة الحرب العالمية الثانية. الاستاذ واين هايزن من دائرة الفيزياء في جامعة ميشغان: نتائج بحثها (الدكتوراة) تظهر اليوم في إحدى كتب التدريب المعتمدة في الفيزياء الحديثة.. كنت محظوظا للفرص التي أتيحت لي للتعرف إليها كطالبة، وكزميلة في هيئة التعليم في الجامعة الاميركية في بيروت، وفي جامعة ميتشغان، وكصديقة لا مثيل لها. وخسارتها لا تعوّض كصديقة، وكذلك في مجال الانجازات العلمية التي كان من الممكن أن تؤديها لتقدم البشرية. بالإضافة إلى ما تقدم، فقد خصّها من عرفها أو اطلع على أبحاثها بشهادات أظهرت أهمية هذه المرأة على الصعيد العلمي، ومن هؤلاء: الوزير د. سليمان الزين، د. انيس فريحة، د. شارل مالك، د. جميل جبر، المطران هزيم، مخايل نعيمة، لطيفة منيمنة، الاب لاتور، دكتوراة اكرام حفار، ادفيك شيبوب، خالدة سعيد، نضال الأشقر، د خليل بيطار، د رياض نصّار، نزيه زيدان، أنيسه نجار، عادل خنيصر، جميل أبي خير..

 وعود على بدء، إلى السؤال هل ساهمت نصار في تفجير القنبلة الذرية التي أمحت من الوجود مدينتي هيروشيما ونيغازاكي؟

     سلوى نصّار نفت الأمر، وأوضحت أنّ عملها لم يكن في تفجير الذرة، وإنما في مواضيع قريبة جدا منها، جاء ذلك من ضمن حديث لها مع جريدة “السمير” التي كان يصدرها ايليا ابو ماضي في أميركا . ويبقى أنّ نشير في ختام هذه المقالة الموجزة عن هذه العالمة الكبيرة، إلى حبها العظيم لأمتها، هذا الحبّ الذي لم يفارقها لحظة في غربتها وفي نجاحاتها، وقد عبّرت عنه في رسالتها الأولى إلى شقيقتها مارسيل بقولها : إنّ الاختبارات التي نلتها أهم بكثير ممّا تعلمته في الكتب.. كم شعرت بحزن نحو بلادنا الجميلة، وكم ينقصها من رجال ونساء يضحّون في سبيلها؟

حقا إنّ العمل القومي لن يكون كاملا وناجحا ومفيدا إلا إذا شاركت فيه المرأة إلى جانب الرجل.

  حسن كامل الصباح وسلوى نصار، ما هما إلا النموذج الحيّ عن المبدعين اللبنانيين، الذين ما تركوا بلادهم وأهلهم إلا حبّا بعطاء البشرية ما يرفع من قيمتها،  ويحقق سعادتها وتطورها وتقدمها.

     كثيرة هي المؤلفات القديمة والحديثة التي نقلت لنا سير المبدعين وأخبارهم وإنجازاتهم، في مختلف الميادين العلمية والأدبية والفلسفية وغيرها، وكثيرة هي المقالات التي دُبجت للحديث عن هذه الأدمغة المميزة المساهمة في البناء الحضاري التي تنعم به الشعوب، ومتعدّدة هي المهرجانات التي أقيمت لتكريم هؤلأ العظماء، التي تستيقظ شعوب العالم الثالث للإحتفاء بهم وقد أصبحوا تحت التراب، وقد خّلدوا في أفضل الأحوال بتماثيل من الحجر، حتى صحّ بهم قول الشاعر:

      لرُبّ حيٌّ غدا في قومه حجرا         ورُبّ ميت حيّا به الحجرُ  

ومن بين أحدث المؤلفات التي صدرت أخيرا، في مجال التعريف بالمبدعين في أميركا الشمالية (كندا والولايات المتحدة)، الكتاب الذي أصدره د. علي حويلي، وعنوانه :”علماء مبدعون، لبنانيون أميركيون”، وقد أشرنا إليه في بداية هذا الفصل. وقد جمع فيه المؤلف سيرة وإنجازات حوالي 36 شخصية من العلماء المبدعين من الرجال والنساء الأحياء المقيمين حاليا في كندا والولايات المتحدة الأميركية، وأهمية هذا العمل أنّه يوثّق لهذه النخبة المختارة من المبدعين مجموعة من المقابلات الحيّة المباشرة التي أجراها د.حويلي مع بعضهم، ليصبح هذا الكتاب، على حدّ تعبير صاحبه: “أهم مصدر وثائقي تاريخي علمي عبّر هؤلاء من خلال هذه المقابلات بحرية وموضوعية عن كلّ ما ينتابهم من هواجس ومشاعر، وما يعتمر في نفوسهم من آمال وطموحات. وشدّدوا على أن تبصر هذه المقابلات النور وتجد طريقها إلى مسامع الأوساط العلمية أفرادا ومؤسسات وحكومات علّها تكشف عمّا يجول في خواطرهم من آراء وأفكار وملاحظات…”.

إستكمالا لهذا الفصل، نرى من الضروري أن نعرّف القارئ على هؤلاء المبدعين المختارين في الكتاب المذكور، وذلك من خلال الجدول الذي نشره المؤلف في نهاية الكتاي، تحت عنوان: “جدول بأسماء العلماء اللبنانيين المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية وكندا”، وقد اتبع المؤلف إيراد الأسماء حسب الأبجدية.

الإسم  مركز الإقامة التخصص  العلمي
إدوار سيون أميركا علم الفلك والفيزياء الفلكية
الياس خوري أميركا علوم الكيمياء العضوية
إدغار شويري أميركا علوم الفضاء
بسام شخاشيري أميركا الكيمياء الحيوية
جان عيسى أميركا التغيرات البيوكيمائية
جان مخول أميركا معالجة اللغة وتحليل الكلام
جورج حداد أميركا الموجات الرقمية
جورج حلو أميركا الفيزياء الفلكية
جورج خيرالله أميركا فيزياء البلازما وتفاعلات الليزر
جون نصرالله أميركا علم النبات
حسين زبيب أميركا تكنولوجيا النانو
حسين فضل الله كندا طبّ الفضاء
رباب كريدية كندا أنظمة الإشارات
ربيع المهتار أميركا الهندسة المدنية والبيئية
رشا شعيب كندا جزيئات الذرة وتفاعلاتها
سامر منصور كندا أمراض القلب والشرايين
سليم روكز أميركا الترجمات الرقمية
شارل العشي أميركا روبوتات المريخ
عاطف قبرصي كندا خبير إقتصادي دولي
علي عاكوم كندا معالجة العقم والمناعة
عوني اللقيس               كندا هندسة الميكانيك وعلوم الطيران
غبريال ربيز أميركا الترددات اللاسلكية
كمال الحداد كندا التحكم بتحويل الطاقة
لينا كرم أميركا معالجة الصور والفيديو
محمد أبو سليمان أميركا الملوثات البيئية
محمد صوان كندا تكنولوجيا الأعصاب
مروان جابر كندا تكنولوجيا الإشارات الرقمية
معاذ الملاح أميركا جراحة القلب
مصطفى شاهين أميركا علوم الأرض والفضاء
منى نمر كندا علوم الجينات
هاني محمصاني أميركا أنظمة النقل الذكية
هدى زغبي أميركا علوم الموروثات المستعصية
هناء الصمد أميركا علوم البيولوجيا التركيبية
وسيم حداد أميركا الأنظمة الديناميكية ونظرية التحكم
يوسف دابلة كندا هندسة الجراحة النووية
يوسف مروة كندا الفيزياء الذرية

مهرجانات تكريم المبدعين رسمياً وشعبياً

   لم يغب لبنان الرسمي والشعبي عن تكريم العديد من أبنائه المبدعين الذين رفعوا اسمه عاليا في بلاد الإغتراب، إن كان عبر وزارة الخارجية والمغتربين وغيرها من الوزارات المختصة، أو من خلال الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، أو عبر المهرجانات الإغترابية الصيفية التي تقام في معظم المناطق اللبنانية، أوعبر المؤسسات الثقافية، وفي مقدمتها: “ديوان أهل القلم”، الذي تأسس في بيروت عام 1999، وكان من أبرز نشاطاته تكريم مجموعة من المبدعين اللبنانين في الخارج، وتوثيق هذا العمل المميّز في كتابين، أصبحا مرجعا للتعرف على نخبة من روّاد لبنان في الخارج على الصعد العلمية والثقافية والسياسية وغيرها، ومن المبدعين الذين كرّمهم “ديوان أهل القلم”:

  • الشاعر د. جوزف الصايغ، الذي عرفته فرنسا صحفيا، ومنتجا إذاعيا، وأديبا وشاعرا وأستاذا جامعيا، له العديد من المؤلفات الأدبية، من بينها: “سعيد عقل وأشياء الجمال، محاولة في المخيلة المشعّرة”، وديوان :”قصور في الطفولة.
  • العالم د. غسان قانصوه، عبقريّ لمع إسمه في يوغسلافيا في علوم هندسة الكيمياء، والبترول، والعلوم الإقتصادية، ونال أعلى الأوسمة وحصد عشرات الميداليات على إنجازاته العلمية في مجال إختصاصه.
  • السفير د. عادل إسماعيل، الديبلوماسي الناجح، الذي عرفته أروقة الأمم المتحدة ناصرا للحق والعدالة وداعيا للسلام، وعرفته الثقافة مؤرخا كبيرا أغنى المكاتب العربية بإنجازات أكسبتها معنى خاصاً بالدقة والموضوعية في التحليل، والجرأة في التعبير.
  • السفير د. كلوفيس مقصود، من سفير في جامعة الدول العربية ، إلى رئيس “مركز عالم الجنوب” في الجامعة الأميركية في واشنطن، حيث ترأس مجموعة من المؤتمرات الدولية الخاصة بالسكان والبيئة والمياه وحقوق الإنسان ونزع الألغام، إلى مدرّس جامعي في كليتي القانون والعلاقات الدولية في الجامعة نفسها. وله العديد من المؤلفات.
  • السيّد حكمت قصير، الذي لمع اسمه في عالم المال والأعمال،  إن كان في المغتربات أو في لبنان. قال. د.غسان العياش في تكريم قصير :”وبتكريم حكمت قصير اليوم، من النخبة المثقفة، ومن الدولة، يقدّم الأستاذ حكمت قصير برهانا جديدا على هذا النجاح المزدوج، فهو من أبرز وجوه الإغتراب اللبناني، وألمع رجال الأعمال اللبنانيين، وفيما كا يبني صرحه ومؤسساته بعرق الجبين، بقي على الدوام متمسكا بالفضائل والأخلاق، ملتزما خدمة بلده، وثابتا في الوطنية الصحيحة في إطارها اللبناني، وفي مداها القومي العربي “.
  • البرفسور الطبيب فيليب سالم، الذي لمع اسمه في الولايات المتحدة الأميركية وفي بلاده وفي العالم أجمع من خلال تصديه لأخطر مرض عرفته البشرية، فهو رئيس برنامح الأبحاث السرطانية  في مستشفى  سانت لوقا في هيوستن، وهو أستاذ الأبحاث السرطانية في مؤسسة أندرسون للسرطان، وهو أول من تجرأ على إجراء الأبحاث والدراسات التي تتعلّق بسرطان الأنسجة الليفاوية، وهو يعمل منذ سنين على تطوير الأدوية الجديدة لمكافحة السرطان وإنقاذ البشرية من هذا المرض القاتل.
  • –          الموسيقي العالمي عازف البيانو عبد الرحمن الباشا، عبقرين، مبدع في فن الموسيقى، لغة الروح في كلّ مكان، قدّم حفلاته الرائعة، في معظم المدن الكبرى في العالم، ونال الجوائز الكبرى في الموسيقى، وعزف لأعظم مشاهير العالم، لبيتهوفن وشوبان وشومان ورافيل،   وشارك بالعزف على البيانو مع كبرى الأوركسترات في أوروبا وأميركا واليابان، وسجّل العديد من الأسطوانات التي نالت شهرة عظيمة في الأوساط الفنية والشعبية في مختلف أنحاء العالم.
  • الوزيرة السيدة إيفون عبد الباقي، رئيسة حزب الأحرار في الأكوادور، وهي التي ترشحت لإنتخابات رئاسة جمهورية الإكوادور عام 2002؛ إيفون عبد الباقي، من أصل لبناني من جهة الوالدين، والدها من بلدة  بتاتر (قضاء عاليه)، والدتها من الهلالية (قضاء بعبدا)، شغلت مناصب سياسية عالية ، منها وزيرة التجارة والصناعة والصيد البحري في الإكوادور. ووزيرة “السوق المشتركة” لست دول هي فنزويلا، كولومبيا، بوليفيا، البيرو، تشيلي والإكوادور. شغلت مناصب دبلوماسية في عدد من العواصم الدولية . إنضمت الى الفريق الدولي لحلّ النزاعات والحروب، وهي قنصل عام الإكوادور في لبنان، بين عامي 1982 و 1996. واشتركت في مباحثات مؤتمري جنيف لوزان الخاصة بلبنان في العامين 1984 و1985، كما حضرت المؤتمر الأول للبرلمانيين المتحدرين من أصل لبناني، المنعقد في دمشق عام 1985.
  • السناتور بيار دبانه، عضو مجلس الشيوخ الكندي. والده من صيدا، ووالدته من دير القمر، ولد في مدينة حيفا الفلسطينية عام 1938، وهاجر مع عائلته إلى كندا في العام 1947. انتخب دبانه في العام 1968 كأول كندي من أصل عربي نائبا في البرلمان الكندي الفيدرالي ، لخمس دورات متتالية، أي لمدة خمس وثلاثين سنة . كما عُيّن وزيرا، عام 1978، في حكومتين  متتاليتين؛ في الأولى وزيرا للإمدادات والخدمات، وفي الثانية وزيرا للصيد البري والبحري . قلّده الرئيس اميل لحود وسام الأرز الوطني، عند زيارته للبنان، في العام 2002.
  • –          الحاكمة الأوسترالية الدكتورة ماري بشير  (حاكمة ولاية نيوساوث ويلز).  ولدت في أوستراليا في العام 1930 ، من والدين لبنانيين، الوالد هو ميشال بشير من بلدة دوما الشمالية، تزوجت من السير نيكولا شحاده من كوسبا في الكورة، وهو رئيس بلدية سدني، منحته الملكة اليزابيت الثانية لقب “سير”، تمحورت إهتماماتها حول قضايا حقوق الإنسان وخصوصا الأطفال والنساء، والمسائل الصحية والثقافية والفنية خصوصا الموسيقية، فهي عضو دائم فاعل في دار الأوبرا الأوسترالية، وفي الفرقة السمفونية في سيدني، وفي جماعة واغنر، وفي جماعة المتحف الوطني وغيره من المتاحف، وفي مجموعة العفو الدولية، ومجلس الإصلاح الطبي وغيره.
  • البروفسور إدغار شويري. إشتهر بإنتاج الصواريخ ذات الطابع العلمي المعرفي الثقافي الإستكشافي للفضاء الخارجي، جاء في سيرته الشخصية: “إنّ الصواريخ التي يستخدمها الشويري تستعمل لأغراض علمية لسبر أغوار المجرات من الأرض إلى القمر، وكوكب مارس وغيرها. هذه الصواريخ التي تعمل بالبلازما بتعبير أبسط (تستغني عن الوقود وتشحن من الطاقة الكونية بالكهرباء التي تصل فاعليتها إلى 100 كيلواط في الساعة)، بهذه القوة تنطلق المركبة بسرعة 3200 كلم في الثانية، وتستطيع المراكب الفضائية إطلاق سفن فضائية بحجم مدينة كبيرة إلى المجرّة، إضافة إلى السفر في الفضاء الكوني الواسع برحلات تستغرق 6 أشهر حاليا، أمّا في المستقبل فسيصار إلى التوصل للطيران بسرعة الضؤ . هذه المحركات قادرة على نقل معدات مدن كاملة لبناء منازل وفنادق على سطح القمر ومارس وباقي المجرات “.
  • البروفسور محمد صوّان . إبن قرية مقنة البعلبكية، والمقيم في كندا. إنّ لقب البرفسور الذي يحمله العالم صوان، ما هو إلا نتيجة جهاده الطويل في مجال العلوم النظرية والأخرى التطبيقية، فهو إلى جانب مؤهلاته العلمية التي توّجها بشهادة دكتوراة هندسة بيو ميديكال، يتمتع بخبرة علمية متقدمة جدا، خصوصا في هندسة الكهرباء والكمبيوتر، التي عمل على تدريسها في عدّة جامعات، في كندا وفرنسا وتونس كما أشرف على العديد من الدراسات الجامعية ونشر العديد من المقالات البحثية العلمية، وتربع على أكثر من مرتبة شرف علمية، كما نال العديد من الجوائز تقديرا على تفوّقه الأكاديمي وانجازاته، خصوصا في ابتكار الأجهزة الإلكترونية، ومن أهمها “العين الثالثة”، وجهاز تنظيم أعمال المثانة، هذا إلى جانب خمس إختراعات لأجهزة إلكترونية متطوّرة، ساهمت في تخفيف ألآم البشر. ولعلّ اختراعه “العين الإلكترونية”، التي أطلقت عليه مجلة العلوم الكندية إسم “العين الثالثة”، وقد تجرأت إحدى الصحف الكندية على القول :”صوّان يكرّر تجربة المسيح”، لأنّ هذا الإختراع يقوم على غرس عين ثالثة في الرأس، تمدّ عيني المكفوف بالبصر.  
  • البروفسور شارل العشي. ولد في بلدة رياق البقاعية عام 1947. ويكفي أن تذكر عنه أنّه: رئيس قسم البعثات الفضائيات إلى الكواكب في وكالة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا). ومدير  مختبر الدفع النفاث، أشهر مختبر في العالم لتصنيع الأجهزة الروبوتية الفضائية وتوجيهها . وتكريما لعبقريته ونبوغه أطلقت الوكالة إسمه على إحدى الكويكبات التي اكتشفها . يرأس العشي حاليا بعثة إستكشاف كوكب المريخ، إضافة إلى عمله في برامج إستكشاف النظام الشمسي بأكمله، ويعمل على إرسال أول إنسان إلى سطح المريخ.
  • البروفسور الأب عادل تيودور خوري. لمع إسمه، خلال ربع قرن (1970-1993)، كأستاذ علوم الأديان في كلية اللاهوت الكاثوليكية في جامعة مونستر بإلمانيا، وهو المؤلف لستين كتابا في علوم الأديان: القديمة والحديثة، خصوصا البوذية، المسيحية والمحمدية. هذه المؤلفات التي ساهمت في الحوار بين الأديان والتفاعل بين الثقافات والتقارب بين البشر باختلاف أديانهم ورسلهم وكتبهم ومذاهبهم وطقوسهم، وتقاليدهم وعاداتهم الدينية.

  وأنهي هذا الفصل، الخاص بالمبدعين اللبنانيين في العالم، بهذه الفقرة التي وردت في كلمتي، في مهرجان تكريم البروفسور إدغار الشويري، والتي تختصر نظرتنا الوطنية إلى هؤلاء المبدعين الذين حفروا في التاريخ اسم لبنان من أحرف تشعّ بالنور والعطاء والتضحية والوفاء، إنها أنوار القمم والقيم التي ستضيء طريق الحياة لنا ولأبنائنا وأحفادنا، ولأجيال هذه الأمة لعشرات بل لمئات السنين، قلت في كلمة تكريم البرفسور الشويري:

 “إنّ قيمة الأمم وعظمتها تقاس بمقدرة عطاءات كفاءاتها وأدمغتها ومبدعيها في خدمة العلم. إنّ لبنان هذا البلد الصغير، هو بحجم الكون، فهو يحتل مرتبة متقدمة بين الشعوب التي أعطت العالم، ورفدت البشرية بالعباقرة المبدعين، الذين ساهموا في تقدّم البشرية وتطوّرها، وإيصال مراكبها، من بعد البحار إلى الفضاء المرئي، والآخر الخارجي، ومن بين هؤلاء اللبناني الأصل، الذي نحتفل اليوم بتكريمه البروفسور إدغار شويري، إبن بلدة كفرحاتا، إبن الكورة، إبن الشمال، الذي يفوق فيه عدد مغتربيه، عدد مقيميه، هؤلاء المغتربين الذين  سجّلوا على صفحات التاريخ نجاحات كبرى تردّدت أصداؤها، وشعّت أنوارها، في أطراف الأرض الأربعة، وتجاوزتها حتى حدود الفضاء اللامتناهي. وإذا  فتحنا صفحة الخالدين من أبناء وطننا في مجال العلم والإختراع وغيره، فهي صفحة مساحتها الكون، كتبت أحرفها من نور، والأسماء فيها كبيرة وكثيرة، ورائدة ورائعة، ونخشى إن بدأنا بذكرها أن لا ننتهي أبدا، وإن ذكرنا البعض أن ننسى  الكثير.

   فعذراً، وعسى أن ننجح يوما في إيفاء هؤلاء المبدعين حقهم بالعودة إلى وطن الرسالة، إلى وطنهم الأم، إلى وطن الحق والخير والجمال.”

الفصل الخامس

الهجرة اللبنانية حكاية انسانية جذورها عميقة في التاريخ، اذ ان اللبناني الذي عبر القارات والمحيطات على مدى عشرات السنين انما فعل ذلك لأسباب اقتصادية، أو سياسية، او اجتماعية، او حباً بالمغامرة، أو سعياً وراء تجارة وبناء ثروة. وكانت الهجرة انتقال من مكان الى آخر، وكان لبنان بالنسبة الى بعض المهاجرين اسم في الذاكرة، والى بعضهم الآخر مسقط رأس وموطن يعاني، ولا بد من العودة اليه بعد انتهاء المعاناة. الى من اصبح مواطن في محل اقامته، وهناك أيضاً من يؤكد في كل مناسبة ان لبنان هوية وانتماء ورسالة حضارية وانه نقطة التقاء الجميع مهما طال ليل الغربة.

ان وجود مفاهيم متعددة للهجرة والانتشار والاغتراب، افرز تلقائياً صوراً متعددة للبنان في اذهان اللبنانيين في الخارج، وبالتالي ارتباطاً متفاوتاً بين مغترب وآخر. ان معرفة ماهية الانتشار وآلية العلاقة بين لبنان المقيم ولبنان المغترب تصبح كمؤشر اولي لمعرفة الارتباط بالوطن وهمومه.

ومن هنا نستطيع ان نكوّن فكرة عن طبيعة العلاقة بين لبنان ومغتربيه، فتطوّر مفهوم الهجرة جعل العلاقة تتطلب نظرة جديدة حيث ان فترة ما قبل الاستقلال وما بعده كان التواصل بين لبنان المقيم ولبنان المغترب ضعيفاً جداً، اللهم الا بعض النشاطات التي يبادر اليها المغتربون، وبعض الزيارات التي يقوم بها بعض المسؤولين الى بعض البلدان الاغترابية. ان عوامل كثيرة جعلت التواصل متواضعاً بسبب حداثة اجهزة الدولة والنقص في عدد البعثات الديبلوماسية والقنصلية اضعف العلاقة بين الدولة التنظيمية وبين الدولة والمغتربين. وقد حاولت الدولة تنظيم الاغتراب اللبناني، الا ان كل التجارب الرسمية وغير الرسمية، كانت لها بعض الجوانب الإيجابية وبعض الجوانب السلبية، لكن لم تؤدّ ابداً الى علاقة منتظمة بين لبنان المقيم ولبنان المغترب.

يتضمن هذا الفصل ثلاثة عناوين:

  • تجربة وزارة المغتربين
  • تجربة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم
  • نظرة الى المستقبل

تجربة وزارة المغتربين

أنشئت وزارة المغتربين بموجب القانون رقم 213 الصادر بتاريخ 2 نيسان 1993، واستتبع بالمرسوم التنظيمي للوزارة رقم 4859 تاريخ 10 أذار 1994.

ان قيام وزارة للمغتربين في لبنان، بمقدار ما كان ضرورة لبنانية واغترابية واقليمية ودولية، بمقدار ما خضعت ظروف الولادة الى محاولات أقل ما يقال فيها انها امتداد لمحاولات سابقة أرادت التعامل مع موضوع الاغتراب بذهنية ضيقة وعقلية مصلحية. وكأن بعض المسؤولين لم يقدر أهمية وجوب حصول نقلة نوعية في التعامل مع هذا الملف على رغم كل التجارب المريرة التي مرت ودفع ثمنها المغتربون ولبنان.

نعم، هناك من يتساءل، لماذا تأخر إطلاق عجلة الوزارة سنتين؟ والجواب ان عقلية المصالح والفولكلور أصرت على وضع العراقيل أمام عمل الوزارة منذ اليوم الأول للإعلان عن قيامها.

ويعرف المغتربون المعنيون حجم العراقيل التي صادفتنا، إذ رفض عدد من المسؤولين مبدأ قيام الوزارة من الأساس بحجج مختلفة ومختلقة منها تداخل الصلاحيات مع وزارة الخارجية، وتم إنشاء لجنة وزارية لحل الاشكالات التي كنا نراها إدارية بسيطة ويراها غيرنا اساسية وربما سياسية، ودخلنا في دوامة اللجان والاجتماعات والتأجيل والانتظار، وجمدت المراسيم والقرارات فترة طويلة نتيجة لاختلاف الرؤية بالنسبة الى الاغتراب الذي اعتبرناه لبناناً ثانياً في العالم يوازي لبنان المقيم في مجالات الاقتصاد والمال والاعلام والثقافة والتعليم وغيرها من الخدمات والأعمال، واعتبرنا ان رعاية الوزارة، بانطلاقتها على أسس سليمة للمغتربين، ستكون مشابهة لرعاية الدولة بالنسبة الى المقيمين، وأصر غيرنا على التعاطي مع الاغتراب بالطريقة نفسها التي سادت في السنوات الخمسين الماضية.

ان اختلاف الرؤية في هذا المجال هو جوهر الخلاف بين منطق المؤسسات ومنطق الفئوية، وهو الذي أدّى الى كل العراقيل التي استطعنا التغلب عليها بقوة القانون اولاً، وبالأسس التنظيمية السليمة التي وضعناها للاغتراب ثانياً، وبالرؤية المستقبلية التي نتصورها للعلاقة مع المغتربين ثالثاً.

خطة عمل الوزارة

وضعت “وزارة المغتربين”، بعد صدور مرسوم تنظيمها، “الرؤية المستقبلية”، لخطة عمل الوزارة، أي سياستها الرامية إلى ترتيب الوضع الإغترابي، وتنظيم علاقته بالوطن الأم، وقد انطلقت هذه الرؤية-الخطة من العناوين الآتية:

أ- التوازن بين الإعمار والعمالة

رأت الوزارة أنّ من أهمّ أولويات تحركها معالجة أوضاع مليون شخص هاجروا في فترة “الأحداث الداخلية”. والعمل على إعادتهم، حفاظا على مصلحة لبنان واقتصاده ومستقبله الإجتماعي .

وشدّدت على توفير العوامل المشجعة على العودة؛ كتأمين الحدّ الأدنى اللائق من المعيشة، وتوفير فرص العمل، وتكثيف الضمانات الإجتماعية من استشفاء وتعليم وتعويضات. وتفضيل اليدّ العاملة الوطنية في مجالات الإنماء والإعمار على العمالة الأجنبية، التي تصادر فرص العمل، وتحرم الدورة الإقتصادية من العملة الصعبة، التي تُرسل إلى الخارج.

ودعت الوزارة الهيئات المعنية بإعادة الإنماء والإعمار، إلى مشاركتها بتوجيه “خطاب إعماري- إغترابي” للمهاجرين الجدد لحضهم على العودة.

ب- المناطق الحرّة للإقتصاد الإغترابي

اقترحت الوزارة أن تخصّص الدولة للمهاجرين مناطق حرّة لهم في مختلف المرافىء والمرافق الخاصة، المصرفية والتجارية والصناعية. واستصدار تشريع استثنائي يقوم على إيجاد الحوافز الضريبية والجمركية والإدارية لتفعيل هذه المناطق، وجعلها أدوات تواصل بين الإنتشار والوطن. وبالتالي استجلاب الرساميل والطاقات التجارية، التي يترافق معها عودة اللبناني المنتج إلى وطنه.

ج- تنظيم المؤسسات الإغترابية

تقوم الوزارة بمسح عددي ونوعي للمجتمعات الإغترابية، يمكنها من دراسة خصوصيات وميزات كلّ منها بغاية معرفة أبعاد الخطاب المهجري، الذي يجب أن تتوجه به إلى كلّ مجتمع، خصوصا لجهة التفاصيل الإدارية فيه. وبناء عليه يتمّ إعداد التصوّر الخاص بتفعيل الأجهزة التنظيمية، بما يُحقّق الإنسجام بينها، وبين الواقع الذي تمثّله. وتنشأ الهيئات التمثيلية في بلاد الإنتشار، من خلال انتخابات تجري بإشراف البعثات الديبلومسية والملحقين الإغترابيين، ومسؤولين في الوزارة، وتخضع لمبادىء المراقبة والمحاسبة والإشراف .

وسعت الوزارة، في هذا السياق لاستصدار القوانين والأنظمة الخاصة بــ “البطاقة الإغترابية”  التي تُعطى لكلّ مغترب، لقاء مبلغ رمزي من المال، على أن تدار أموال هذه البطاقات من قبل الهيئات المنتخبة بمراقبة وزارة المغتربين، وتصرف على النشاطات الإغترابية. كم تمنح هذه البطاقة المهاجر إحساساً بالمشاركة والمسؤولية، وشعوراً بمساهمته بعمل مؤسساتي، يزيد من تعلقه بالشأن الإغترابي العام. من جهة أخرى يحصل حامل البطاقة الإغترابية على تسهيلات كثيرة، كالحسومات في شركات السفر والمطاعم والنوادي والملاهي وغيرها .

كما عينت الوزارة “مجلساً استشارياً” تتمثل فيه المجتمعات الإغترابية، لمساعدة الوزارة على وضع سياسة منسجمة مع واقع الجاليات اللبنانية، لاستكمال عمليتي التنظيم والانتخابات للمؤسسات المهجرية. وتمّ اختيار أعضاء هذا المجلس من مغتربين غير مقيمين في لبنان، مع المراعاة في الاختيار لشروط الكفاءة والثقافة والنظافة والنجاح الإجتماعي والمهني والرصيد المتميز في العلاقات العامة. والهدف من إنشاء المجلس الإستشاري الإغترابي هو إعطاء صورة دقيقة وواضحة عن الإغتراب اللبناني، ووضع أسس لقواسم مشتركة بين جميع المغتربين، كون أعضاء المجلس يمثلون المجتمعات الإغترابية في مختلف القارات، وقامت الوزارة بتعميم هذه الأسس على جميع المغتربين، على أن يجتمع أعضاء المجلس مرّة كلّ عام وعندما تدعو الحاجة، ويقدمون إلى وزير المغتربين توصياتهم ودراساتهم عن واقع الإغتراب وتطوّره وتفعيله للمساعدة على وضوح الرؤية في اتخاذ القرارات، ويتحول هذا المجلس الذي يتمّ انتخاب أعضائه لاحقاً من المغتربين، إلى ما يشبه “البرلمان الإغترابي”، الذي يمثّل مجتمع المنتشرين في العالم .

ورأت الوزارة في خطتها أنّ من أهم ركائز سياستها الإغترابية: معالجة موضوعي الأحوال الشخصية والأملاك للمهاجرين، من أجل إيقاف النزف الحاصل في فقدان هويتهم وأملاكهم. وذلك عن طريق اتخاذ الإجراءات القانونية والتنظيمية الكفيلة بالحفاظ على هوية المهاجر، وحماية أملاكه في أرض الوطن.

د- الإعلام والثقافة

سعت الوزارة، في هذا الإطار إلى رسم خريطة إعلامية تأخذ في الإعتبار حاجة كلّ مجتمع اغترابي لوسيلة إعلامية تتناسب وخصوصياته من جهة، لكنها تتضمّن أبواباً واسعة للمجتمعات الإغترابية الأخرى ولبنان، بحيث تنقل أخبار ونشاطات الجالية في موقع ما إلى الجاليات في مواقع أخرى وبالعكس، وتنقل أخبار لبنان وأوضاعه إلى الجاليات كلّها وبالعكس، مع ضرورة مراعاة سقف اللحمة الوطنية والأخبار الصادقة البعيدة عن الدسّ والتفريق، والنشاطات الجامعة الموحدة لجهود اللبنانيين. كما يمكن للوزارة أن تعمد بالاتفاق مع المغتربين أنفسهم في منطقة ما إلى إنشاء قناة تلفزيونية فضائية. ومن جهة أخرى عملت الوزارة على تعميم اللغة العربية في المدارس والنوادي والندوات والجمعيات، لأنّه يمكّن الأجيال الجديدة في المغتربات من القراءة والكتابة بالعربية، ويمكّنها في الوقت نفسه من البقاء على تماس مع لبنان وأخباره، ومع الأهل والأقارب والأصدقاء، ويشجّع على التواصل مع الجاليات اللبنانية في دول أخرى. وسعت الوزارة إلى ايفاد أساتذة ومعلمين بالتنسيق مع وزارة التربية، وإعطاء منح دراسية لأبناء المغتربين المتفوقين، ولأبناء البلد الذين يتعايشون مع أهله ضمن الشروط والأهداف نفسها.

تجربة الجامعة اللبنانية الثقافية

ان اتساع الاغتراب ومدى أهميته بالنسبة للوجود اللبناني في القارات الخمس، وضرورة تعزيز العلاقات فيما بين اللبنانيين المغتربين من جهة، وفي ما بينهم وبين شعوب وحكومات الدول التي يتواجدون على ارضها، وفي ما بينهم وبين لبنان المقيم، عزز فكرة انشاء الجامعة اللبنانية في العالم، لتجمع شملهم وتوطد طاقاتهم وكلمتهم وتدافع عن مصالحهم. وفي العام 1958 وفي عهد الرئيس فؤاد شهاب، قررت حكومة الاتحاد الوطني انشاء الجامعة اللنبانية في العالم، واتخذت قراراً قضى بتشكيل لجنة برئاسة وزير الخارجية آنذاك اطلق عليها ” المكتب الدائم” مهتمها جمع المعلومات والاعداد لمؤتمر اغترابي في بيروت يشترك فيه ممثلون عن مختلف بلدان الاغتراب، وفي شهر ايلول عام 1960 قرر هذا المكتب عقد اول مؤتمر عالمي للمغتربين في بيروت، وفي 13 كانون الثاني من العام نفسه قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة وزارية تتولى الاشراف على اعداد ما يلزم لنجاح المؤتمر. وفي 31 آذار وجهت وزارة الخارجية تعميماً الى بعثاتها الدبلوماسية مرفقاً بالمراسيم والقرارات التي اتخذت في هذا الصدد ودعوة المغتربين للمشاركة في اول مؤتمر اغترابي في لبنان، وفي 15 ايلول عام 1960 انعقد المؤتمر في قصر الاونيسكو بحضور الرئيس فؤاد شهاب، وفيه أطلقت الجامعة اللبنانية في العالم وأقر نظامها الداخلي وتم انتخاب أول مجلس عالمي لها.

وتسلم هذا المجلس مهامه من وزير الخارجية بصفته رئيساً للمكتب الدائم، إلا أن وزارة الخارجية استمرت تمارس سلطة الوصاية على الجامعة حيث كان لها دورها في المشاركة في تسمية الأمين العام وفض الخلافات، كما منحت وزارة الخارجية للجامعة مقراً لها في مبناها وموازنة مالية وأعطت لرئيسها وأمينها العام جواز سفر خاصاً، وفي العام 1973 حصلت الجامعة على العلم والخبر الصادر عن وزير الداخلية تحت رقم 361 تاريخ 13/12/1973 وفقاً لقانون الجمعيات اللبناني كجمعية قائمة قانوناً في لبنان من اهدافها :

1 – تعزيز عرى علاقات الصداقة بين اعضائها وبين شعوب البلدان التي يقيمون فيها والاسهام في تطور هذه البلدان وتقدمها.

2- توثيق العلاقات بين اعضاء الروابط التي تتألف منها الجامعة وبين الدول التي يقيمون فيها وتوثيق الروابط بين هذه البلدان وبينها وبين لبنان.

3- تشجيع النشاطات والمبادلات الثقافية والاجتماعية والسياحية والاقتصادية ذات المنفعة المتبادلة.

4- نشر التراث اللبناني في البلدان حيث يقيم اعضاؤها ونشر تراث هذه الدول في ما بينها وفي لبنان مع الحفاظ على الوجود اللبناني.    

وبعد تعديلات طرأت على النظام الداخلي للجامعة أصبحت أهدافها على الشكل الآتي:

  1.  تعزيز علاقات الصداقة وتوطيد الروابط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياحية والإعلامية والرياضية بين بلدان الاغتراب ولبنان وانشاء جمعيات مشتركة في الطب والهندسة والقانون والعلوم الاخرى.
  2. 2-    دعم كيان لبنان وابراز هوية الانتشار اللبناني المميزة وتنظيم هذا الانتشار وتفعيله.
  3. 3-    تعزيز التعاون بين الافراد والمؤسسات الاغترابية فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين لبنان من جهة أخرى.
  4. 4-    الحفاظ على التراث اللبناني ونشره في دول الانتشار ونشر تراث تلك الدول في لبنان.
  5. 5-    تقديم التسهيلات والخدمات الممكنة للمغتربين والمتحدرين.

ان اهداف الجمعية من حيث المبدأ كانت منتدى لتوق المغتربين الى اطار يوحدهم (الجمعية) والى مظلة تقيهم مصاعب الغربة (الغطاء الرسمي للدولة)، الا ان مسيرة  هذه المؤسسة حفلت هي الأخرى بمطبات وعثرات وتضمن برنامجها العديد من الثغرات وشابت أعمالها في غالب الأحيان تدخلات وتداخلات لا علاقة لها بالاغتراب وحمايته وتفعيله من قريب أو بعيد.

وعلى الرغم من حصول الجامعة على العلم والخبر من وزارة الداخلية استمرت وزارة الخارجية تمارس وصايتها على الجامعة خلافاً لقانون الجمعيات الذي باتت الجامعة تخضع له وبات يحتم عليها ان تكون تحت سلطة وزارة الداخلية. هذا الأمر أدى الى حدوث أخطاء قانونية نتج عنها صدور قرار عن وزير الخارجية بتاريخ 13/8/1991 قضى بحل الهيئة الادارية مما ادى الى صدور قرار عن مجلس شورى الدولة رقم 98 تاريخ 13/5/1992 قضى بوقف تنفيذ قرار وزير الخارجية بتاريخ 13/8/1991 لأن لا صلاحية له باتخاذ هذا القرار.

إن المتتبع لمسيرة الجامعة يجد أن المسؤولين المعنيين بالوضع الاغترابي لم يستطيعوا استيعاب اهمية الانتشار بالنسبة الى لبنان ولم يتعاملوا معه من منطلقات عملية مجردة بعيدة عن اشكالات الوضع الداخلي. والدليل على ذلك انهم لم يحددوا منذ البداية الحدود الواضحة للعلاقة بين الدولة والجمعية وحصروها بالاتفاق على تعيين أمين عام ومكاتب في وزارة الخارجية وتقديم مساعدة مالية، وكان هذا الغموض في العلاقة كفيل بالانفلات من الضوابط من الطرفين.

كان على الأجهزة المعنية في الدولة اللبنانية ان تواكب مسيرة الاغتراب بتأطير تدريجي لمؤسساته، فهو طاقة مستقلة للبنان لا مستقلة عن لبنان، وعندما كانت المصالح تتلقى كان شعار الاستقلالية يتصدر الواجهة، أما اذا كانت المصالح متعارضة فالمعنيون كانوا يتدخلون بكل شاردة وواردة ويقلبون النتائج لمصلحتهم من دون اي اعتبار لشعار الاستقلالية. وأدى ذلك الى التغاضي حيناً عن اجتماعات وانتخابات غير مستوفاة الشروط القانونية، وأحياناً الى التدخل لتغيير أمر قائم… وكل ذلك من دون ضوابط واضحة.

وفي ما يتعلق بالجمعية الاغترابية يمكن رصد العوامل الاتية:

  1.  ان الهرم الاغترابي بني بالمقلوب، ووقف على رأسه بينما قاعدته في الهواء، فبدل ان تطرح الجمعية مشروعها على القاعدة الاغترابية لانشاء فروع، فانتخاب مجالس وطنية وقارية ومجلس عالمي ورئيس وهيئة تنفيذية، تم تعيين بعض الأشخاص وطلب منهم تمثيل الجاليات وتأسيس فروع ومجالس ولا يزال حتى  يومنا هذا من يدعي أنه رئيس مجلس وطني أو رئيس فرع منذ 20 عاماً.
  2. 2-    وجد المغتربون ان “الهرم الواقف على رأسه” لم يكن اعتباطياً بل نتيجة صيغة تعمدها بعضهم لأنه أراد طرح مشروع موجه يعمل على الاستقطاب له لاحقاً بدل أن يرتكز على مشروع توحيدي صلب يرضي الغالبية.
  3. 3-    ساعد في وقف الهرم على رأسه أن مشروع الجامعة لم يلتزم خطاباً توحيدياً عاماً ممّا افقده مشاركة لبنانية شاملة، وعانى هذا المشروع من ثغرات تفوق الوصف سمح بتفسير بنوده حسب هوى الأفراد ومصالحهم وغاياتهم.
  4. 4-    استغلال الجامعة من اجل الحصول على مواقع منها تجارية وسياسية واستثمارية واصرار البعض على البقاء في مناصبهم مستفيدين منها في مجال العلاقات العامة.
  5. 5-    غياب النهج المؤسساتي كلياً عن الجامعة.
  6. 6-    التدخلات الحزبية طغت في بعض الفترات على اعمال الجمعية واجتماعاتها فكانت المؤتمرات خاضعة لنظام التقاسم الحزبي، وكثيراً ما كان يتم تعيين اللجان والأعضاء على أسس قرارات حزبية علنية.

من هنا، يتفق المعنيون بالشأن الوطني الاغترابي على ان نجاح الجامعة في تحقيق غاياتها وأهدافها جاء نسبياً وفي احسن الأحوال وشبه معدوم في الكثير من المواقع، وشعر المواطن اللبناني، المقيم والمغترب، بأن الامال التي علقها على قيام الجامعة لتفعيل الشطر المغترب مع الوطن الام لم تتحقق.

ان الحديث عن سلبيات الجامعة يجب ان لا يجعلنا ننسى الايجابيات، فالجامعة بعثت فكرة العمل الجماعي في صفوف المغتربين في فترة ما واستطاعت تحصيل بعض الامتيازات للجاليات في فترة اخرى وعمت اجواء فولكلورية واحتفالية في اكثر من مرحلة كذلك كان لعدد من المسؤولين الذين تولوا رئاستها محاولات مشهود لها لبناء الجامعة على أسس تمثيلية وقانونية ومؤسساتية صحيحة الا انهم كانوا يصطدمون بعقبات بعضها يتعلق بوضع المغتربين انفسهم وبعضها الآخر يتعلق بنظرة الدولة للاغتراب وبعضها الثالث يتعلق بحسابات طائفية وسياسية وحزبية.

لقد عاشت الجامعة منذ منتصف الثمانينات واقعاً تناحرياً لم يختلف كثيراً عن واقع المؤامرة التي نفذت في لبنان، بيانات طائفية، تهديدات، مقاطعة، خطابات مذهبية. وعندما تم التوصل الى اتفاق الوفاق الوطني عقدت الجامعة عدة اجتماعات بهدف رأب الصدع بعدما وصلت الامور الى مرحلة خطرة اصبحت معها الجامعة ثلاث جامعات وعندما قامت وزارة المغتربين – وفي قانون ومرسوم قيامها حق الاشراف على الهيئات التي تمثل الاغتراب بها – بدأت محاولات لرأب الصدع في الجامعة لكن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح نظراً الى حال الفوضى التي وصلت اليها.

لقد حاولت وزارة المغتربين أولاً، والمديرية العامة للمغتربين بشخص مديرها العام، اخراج الجامعة من واقعها المرير والسعي بكل جدية لانهاء الخلافات التي كانت قائمة قبل انشاء وزارة المغتربين والعمل على توحيدها في هيئة واحدة. لقد ألفت لجان عديدة في عهدي الرئيسين اميل لحود وميشال سليمان من اجل توحيد الجامعة، إلا أن كل المساعي لم تصل الى الهدف المنشود. في السنوات الأخيرة، خاصة بعد العام 2013، بذل المدير العام للمغتربين جهداً كبيراً وتمكن من جمع كل فرقاء الجامعة على مبدأ وحدة الجامعة والاتفاق على السير باتفاق يقوم على تأليف لجنة مشتركة من الجامعات الثلاث لتحقيق الوحدة انطلاقاً من ما يلي:

اولاً: اعتراف الجميع ان الجامعة هي مؤسسة واحدة وليست عدة جامعات.

ثانياً: العمل على اعادة النظر بالنظام الداخلي للجامعة ووضع نظام جديد لها يأخذ بعين الاعتبار موضوع تطور مفهوم الهجرة وتأثيرها ودورها في العالم .

ثالثا: توحيد الفروع والمجالس.

رابعا: الدعوة الى مؤتمر عام يعقد على اساس النظام الجديد وانتخاب ادارة جديدة للجامعة تمثل الجميع.

ومن المؤسف أيضاً ان جهات رسمية وقفت الى جانب هذه الحملة المغرضة. بالرغم من الصعوبات، ان قناعتنا زالت راسخة بضرورة وجود الجامعة وجدواها، فكرة وغايات وأهدافاً، ولكن نريد ان تكون للاغتراب مؤسسة فاعلة وقوية وممثلة للمغتربين ونريدها ان تتحول الى برلمان حقيقي وان تضمن في فروعها ومجالسها الوطنية ومجلسها العالمي النخبة اللبنانية الاغترابية الموزعة على كل القطاعات، ونريد ان يكون لها نظام عصري ومناسب يضمن استمرارية عملها.

نريد  للجامعة أن تعمل من أجل مصلحة الجاليات اللبنانية وليس من أجل الوجاهة والمصالح الشخصية.

نريد وقف الابتزاز الذي يتعرض له المغتربون في الداخل والخارج.

نريد مؤسسة اغترابية مستقلة في عملها الاداري والتنظيمي ولكن لا نريدها ان تكون مستقلة عن الوطن ومنبراً سياساً يستخدم ضد الدولة ويثير النعرات الطائفية والمذهبية ويشرذم الاغتراب.

نريدها مصدر قوة للبنان وللمغتربين ومن هنا نبدي كل انفتاح وتعاون مع أي هيئة جديدة تتبنى ضرورة ترتيب الوضع القانوني والتمثيلي الصحيح للجامعة بالتعاون والتنسيق مع وزارة الخارجية والمغتربين على اعتبار انها المرجع الرسمي والوحيد للاغتراب.

وأعتقد ان المرحلة المقبلة ستسجل جدّية لاعادة بناء هذه الجامعة في اطار مؤسساتي فاعل، خصوصاً أن هاجسنا منذ اللحظة الاولى لتولينا هذه المسؤولية كان الوصول الى مؤسسة بمستوى الآمال الوطنية والاغترابية.

رؤية للمستقبل

ان اعتماد سياسات ملائمة للاغتراب، يقوم من خلال اشراك المغتربين في المسارات السياسية والتنموية والاجتماعية، فقدرة المغتربين على دعم بلدانهم تتم من خلال التواصل معهم، ومن خلال نقل رأسمالهم المالي والبشري والاجتماعي الذي يتخذ شكل تحويلات ومهارات ومعارف، وكذلك عبر استخدام شبكة علاقاتهم لنسج روابط اجتماعية وفكرية وتجارية وغيرها من الصلات العابرة للأوطان. من هنا، يبرز دور البلدان في اتخاذ سلسلة من الخطوات، على الصعيدين القانوني والمؤسساتي، للوصول الى مغتربيهم، وتعزيز صلاتهم ببلدانهم الأم، وتوفير الحقوق لهم، والاعتراف بهم واشراكهم في المسارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

اننا ومن موقعنا في المديرية العامة للمغتربين، ومن خلال تجربتنا الطويلة، ومن خلال الإطّلاع على تجارب الدول الأخرى المشابهة للبنان في التعاطي مع المغتربين، أردنا أن نعرض نظرتنا المستقبلية لإدارة الاغتراب في لبنان، وهي تصلح أن تكون خطة عمل لأي دولة يمكن ان يكون هناك اوجه تشابه بينها وبين لبنان.

تقوم الرؤية الاغترابية على مبادئ وأهداف، وهي تنطلق من:

  1. أهمية التعرّف على ملامح الهجرة والمهاجرين.
  2. أهمية العناية بالمغتربين جميعاً ومن كل الفئات.
  3. اشراك المغتربين وجمعهم بأنشطة وقطاعات وفئات عمرية.
  4. المبادرات العابرة للأوطان على الصعيد الوطني والعالمي.
  5. أهمية عودة المغتربين الى وطنهم وتأمين الحد الأدنى اللائق من المعيشة وليس فقط الاستفادة منهم في الخارج.
  6. استقاء الدروس والعبر من التجارب الناجحة ومن كل التجارب.
  • مبادئ العمل الاغترابي:
  • المتابعة الحثيثة للمغتربين، بالاعتماد على وسائل التواصل الموجودة والمعروفة، وعلى انشاء مؤسسات حكومية تعنى بالقضايا المرتبطة بالصلات مع المغتربين، ودعم الجمعيات والهيئات التي تعنى بهم.
  • 2-    أهمية مبادرات التواصل والتعاون مع الجاليات والعمل على انجاحها وعلى ضمان الحوار المستمر والفعال بينها.
  • تنمية القدرات وبناء مؤسسات التمثيل مثل المجالس الاستشارية لجاليات المغتربين.
  • ملامح الهجرة التي تشمل التعرف على المغتربين ومناطق انتشارهم، تاريخ الاغتراب، أعداده، قطاعاته، المشاكل والحلول،…

تم في لبنان انشاء لجنة تضم كل المعنيين بالاغتراب والهجرة من القطاعين العام والخاص القطاع العام، وقد أنشئت هذه اللجنة بناء لاقتراح مدير عام المغتربين (المؤلف).

  • التوجه الى جميع المغتربين بكل فئاتهم الاجتماعية، حيث ان المجتمع الاغترابي هو كالمجتمع المقيم فيه الغني والمتوسط والفقير.
  • بناء جسر من الثقة بين الدولة ومغتربيها ووقوف الدولة مع مغتربيها في السراء والضراء، وبناء علاقة قائمة على الاحترام والتقدير للمغتربين والنظر اليهم النظرة الانسانية، وليس على انهم ثروة الوطن بل هم مسؤولية الوطن.
  • التواصل مع كل القطاعات الاغترابية، رجال الأعمال، الشباب، المسنين، الفنانين، العلماء، المفكرين، السياسيين، الأطباء، المهندسين، المحامين، وعدم اهمال قطاع المرأة.
  • الدمج بين المقاربات الحكومية والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في مقاربة العمل الاغترابي، عبر تشجيع انشاء وتطوير هيئات وجمعيات تعنى بالعمل الدائم مع المغتربين والابقاء على تواصلهم مع بلدهم الأم.
  • خلق افكار لمشاريع تشجع الدمج بين العمل على الصعيد الوطني والصعيد المحلي عبر التنسيق بين خطة وطنية للتواصل مع المغتربين، وبين خطط لمناطق محلية تجمع المغتربين على أساس مناطقي حيث يكون لدى المغتربين الحنين والشعور بالانتماء الى مدنهم وقراهم، وبالتالي استعدادهم بشكل أكبر لدعم نشاطات ومبادرات تنموية في مسقط رأسهم.

وبالنسبة لهذا الموضوع، فقد أطلق في لبنان مشروع تحت اسم “عيش لبنان- Live Lebanon ” عام 2009 بين المديرية العامة للمغتربين وبين البرنامج الانمائي للأمم المتحدة UNDP NDP البرنامج الانمائي للأمم المتحدة ربين ة في مسقط رأسهم.

دى المغتربين الحنين والشعور بالانتماء الى مدنهم وقراهم، وبالتالي استع، هدف هذا المشروع ربط المغتربين اللبنانيين بوطنهم من خلال اقامة المشاريع التنموية في قراهم ومدنهم. المشروع أطلق في 12/11/2009.

  • أهداف العمل الاغترابي:

ان أهداف العمل الاغترابي هي ترجمة للمبادئ التي تحدثنا عنها سابقا، ولذلك فإن تعزيز مشاركة المغتربين هي الأساس في تحقيق الأهداف المرجوة، وعليه فإن:

  1. السهر على متابعة أوضاع المغتربين، لا سيّما اصحاب الحاجة وتقديم المساعدة لهم، وتخصيص الموازنات اللازمة لذلك.
  2. الاستعداد الدائم للبعثات الدبلوماسية في الخارج من سفارات وقنصليات عامة وقنصليات فخرية لتقديم المساعدة المطلوبة.
  3. اقرار سياسة اغترابية وطنية، اذ ان الاغتراب في بلد ما كلبنان مثلا، لا يقع على عاتق ادارة واحدة انما هو مسؤولية وطنية.
  4. تحسين وسائل التواصل مع المغتربين وانشاء قناة اعلامية خاصة بهم، تنقل أخبارهم وقصصهم، وتعمق العلاقة معهم ومع اللبنانيين المتحدرين من أصل لبناني.
  5. التواصل مع جمعياتهم وتشجيعهم على اقامة نشاطاتهم في لبنان وتسهيل ارتباطهم بوطنهم، عبر تنظيم منتديات تجمعهم ولقاءات اقتصادية وفكرية، وخلق فرص اقتصادية واستثمارية وتسهيلات خاصة لضمان عودتهم الى الوطن.
  6. تكريم الأشخاص المميّزين من المغتربين في كل الحقول العلمية والأدبية والفكرية والسياسية من خلال منحهم جوائز او ميداليات او اطلاق اسماءهم على شوارع او ساحات في وطنهم.

ومن المفيد الاشارة الى أن وزارة المغتربين كانت قد أنشأت وسام المغترب، وهو الوسام الثالث في الدولة اللبنانية يمنح بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بناء لاقتراح وزير المغتربين آنذاك.

الوسام صدر بموجب القانون رقم 251 تاريخ 30 كانون الأول 2000.

  • تطوير سياسة الهجرة من خلال التعاون الدولي بشأن الهجرة والتنمية، وعبر الاستفادة الدائمة من الدروس والعبر المستقاة من التجارب الاغترابية المختلفة وكذلك عبر الاستماع الدائم الى مطالب المغتربين، ودعم الابحاث حول فهم الاغتراب، وتشجيع قيام المراكز البحثية والمتاحف الاغترابية، وكل ما من شأنه تعزيز المعرفة بموضوع الهجرة والاغتراب.

اما وسائل العمل يجب ان تنطلق بشكل أساسي من مبادرات حكومية ومبادرات اهلية اغترابية.

  • بالنسبة للمبادرات الحكومية:
  • انشاء برنامج دعم المغتربين، وهذا البرنامج اعتمد مثله في ايرلندا وهو يهدف الى مساعدة الجمعيات الاغترابية في الخارج خاصة جمعيات التي تدعم ذوي الاحتياجات الخاصة.
  • انشاء لوبي لبناني من عدة فئات من شخصيات لبنانية مؤثرة في اماكن اقامتها ويمكن أن لا يتعدى العدد 300 شخصية. يقوم هذا اللوبي بالعمل مع السفارات والقنصليات اللبنانية على ترويج لبنان اقتصادياً وثقافياً وسياحياً مما يتيح البلد الدخول الى اسواق جديدة.
  • اقامة المعارض المتنقلة في بلدان الاغتراب لترويج الانتاج اللبناني، واقامة المهرجانات والفعاليات الاغترابية السنوية في كل المناطق اللبنانية.

تقيم المديرية العامة للمغتربين في وزارة الخارجية في كل سنة مهرجان لكل محافظة يشترك فيها المغتربون اللبنانيون من ابناء هذه المحافظات.

  • ايجاد منصة للدعاية والاعلام لدعم الأنشطة الصحفية التي تبرز نجاحات المغتربين وابراز التحديات التي يواجهونها، وبالتالي ابقاء التواصل مع المغتربين وتتبع أخبارهم.
  • الحفاظ على الارث الاغترابي اللبناني.
  • تشجيع اللبنانيين على استعادة جنسيتهم، صدر القانون رقم 41/2015    “قانون استعادة الجنسية اللبنانية”.
  • منح بعض المجلين منهم الجنسية اللبنانية بمراسيم.
  • تعليم اللغة العربية.
  • متابعة اقامة المخيمات للشباب المغترب.

أحد أبرز نشاطات المديرية العامة للمغتربين كان المخيم السنوي لشباب لبنان المغترب.

إن العمل على تحقيق هذه المبادئ والأهداف من شأنه الحفاظ على العلاقة المميزة بين لبنان ومغتربيه، ومن شأنه أيضاً تعزيز التواصل الحضاري بين الشعب اللبناني وبين شعوب البلدان التي يعيش بها اللبنانيون، ويعزز فرص التنمية والتقدم لكل الأطراف وخاصة لبلدنا لبنان.

أفكار كثيرة يمكن أن تضاف الى هذه الاقتراحات فالدنيا تسير الى الأمام والعالم يتقدم والمعرفة تتوسع، ويمكن لنا ان نزيد الى نجاحات اللبنانيين نجاحات كثيرة من خلال أفكار عملية وعلمية ومن خلال ممارسة صادقة ومخلصة.

مـــراجـــع الــــكـــتـــاب

  1.  أبي فاضل ربيعة: الفكر الديني في الأدب المهجري، بيروت 1992.
  2.  أكمير عبد الواحد: العرب في الأرجنتين، النشوء والتطّور، الطبعة الأولى، بيروت 2000.
  3. 3-    الأمانة الفنية لمجلس وزراء الشؤون الإجتماعية العرب: تقرير وتوصيات ندوة هجرة العقول العربية إلى خارج الوطن العربي، بيروت 2000.
  4. 4-    أيوب وديع: الشعر العربي في المهجر الأميركي، الطبعة الثانية، 1993.
  5. 5-    بدر نخلة: شعراء ومعاصرون، عرب أمريكيون، عمان 2006.
  6. 6-    جمعة هيثم: الهجرة اللبنانية، واقع وآفاق،بيروت 2004.
  7. 7-    جمعة هيثم: في رحاب الإغتراب، بيروت2013.
  8. 8-    حويلي علي، علماء مبدعون، لبنانيون أميركيون ، بيروت 2017.
  9. 9-    حميه علي: العلامة د. خليل سعاده، سيرته وأعماله، بيروت 2007.
  10. 10-                      خرباوي باسيليوس الخوري: تاريخ المهاجرة السورية إلى الديار الأميركية، نيويورك 1913.
  11. داية جان: د. خليل سعاده، نتاجه الفكري وجهاده السياسي، بيروت، 1998.
  12. 12-                      ديوان أهل القلم: خمس سنوات من العطاء، بيروت 1999-2000.
  13. ديوان أهل القلم: سنوات من العطاء والإبداع ، بيروت 2011.
  14. 14-                      ريبوراما مؤسسة: سعادة السفير، فؤاد الترك، بيروت 1996.
  15. زين الياس: هجرة الأدمغة العربية، بيروت 1972.
  16. 16-                      الشميل خليل: تقرير عن الإختصاصيين في الإغتراب اللبناني، بيروت 1997.
  17. شحيمي محمد، دراسات إغترابية، الإنتشار اللبناني في البراغواي، الطبعة الأولى 2000.
  18. عون نعوم طنوس، موسوعة الهجرة اللبنانية الى أستراليا،طبعة أولى، اوستراليا 2001.
  19. حرفوش نبيل: الحضور اللبناني في العالم، الأجزاء الثلاثة، طبعات، جونية     1974، 1985، و1988.
  20. صيدح جورج: أدبنا وادباؤنا في المهاجر الأميركية، الطبعة الأولى، دار العلم للملايين، 1964.
  21. ضعون توفيق فضل الله: ذكرى الهجرة، ساو باولو، 1945.
  22. ضاهر مسعود: الهجرة اللبنانية إلى مصر، هجرة الشوام، بيروت 1986.
  23. طبر بول: الجاليات العربية في أستراليا، بيروت 2013.
  24. طبر بول: اللبنانيون في استراليا، بيروت 2005.
  25. عبيد سامي: الحضور اللبناني في فنزويلا 2006.
  26. العقل جهاد: الهجرةالحديثة من لبنان وتعاطي المؤسسات الرسمية والأهلية معها (1860-2000)، الطبعة الأولى، بيروت 2000.
  27. العقل جهاد: فجر الهجرة، مآس ونوادر، الطبعة الأولى، بيروت 2002.
  28. العقل جهاد: روّاد في المهجر (مبدعون وكتاب)، مخطوطة.
  29. عقراوي نجلا: سلوى نصار كما عرفتها، بيروت 1997.
  30. العطار محمد: هجرة الكفاءات العربية، الطبعة الأولى  1985.
  31. فاعور علي: الآثار الإجتماعية والإقتصادية للهجرة اللبنانية، بيروت 1989.
  32. فاعور علي: الهجرة للبحث عن وطن، بيروت 1993.
  33. فرجاني نادر: سعيا وراء الرزق ، بيروت 1988.
  34. لجنة الصباح الوطنية: العالم المخترع حسن كامل الصباح، بيروت 1995.
  35. لبكي جوزف: الإنتشار الماروني في العالم، واقع ومرتجى، لبنان 2013.
  36. مرسي فخري نجاة: المهاجرون العرب في أوستراليا، أستراليا 1989.
  37. المغتربين وزارة: ندوة عودة الكفاءات اللبنانية المهاجرة، بيروت 1996.
  38. المغتربين وزارة: ندوة المغتربين والجنسية اللبنانية، بيروت 1998.
  39. المغتربين وزارة: المؤتمر الأول لرجال الأعمال اللبنانيين، بيروت 2000.
  40. المغتربين وزارة: برنامج لإدارة شؤون الإغتراب اللبناني، بيروت 1998.
  41. الملاح عبدالله، الهجرة اللبنانية في أيام المتصرفية، بيروت 1996.
  42. مروة كامل: الهجرة اللبنانية السورية إلى أفريقية الغربية، بيروت، 1939.
  43. نمير سامي: الإنتشار اللبناني في أستراليا، منشورات وزارة المغتربين، بدون تاريخ.
  44. يواكيم فارس: ظلال الأرز في وادي النيل، لبنانيون في مصر، بيروت 2009.
  45. 45-                      MCKINSEY GLOBAL INSTITUTE – People on the move: Global migration’s impact and opportunity.
  46. مراجع أخرى ذكرت في سياق الكتاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى