أمسية صوت الصمود في بعلبك: إرادة للحياة كطائر الفينيق تنبعث من الرماد مهما كانت المصاعب والتحديات
“صوت الصمود” عمل موسيقي سيمفوني، أراده المايسترو المتألق هاروت فازليان صرخة تحد ونبض حياة للثقافة اللبنانية العصية على كوفيد- 19، فتلقفت الفكرة الألمعية لجنة مهرجانات بعلبك الدولية، لتختصر بليلة واحدة رؤيتها التي كانت معدة لمهرجان مصغر أطاحت به جائحة “كورونا”، فزاوجت ما بين مئوية لبنان الكبير، والذكرى ال250 لميلاد الموسيقار الألماني الخالد لودفيج فان بيتهوفن، فأتت أمسية داخل معبد باخوس في قلعة بعلبك الأثرية قلّ نظيرها، وأعادت بالذاكرة عمالقة الفن الذين ما زالت بصمتهم راسخة في الأذهان، حيث طاف جان لوي مانغي بمشهدية لأعمالهم ومستعينا بصور من خوابي المهرجان المعتقة لحفلات منوعة، تنهل من شتى أنواع ومشارب الفنون، من موسيقى شرقية وغربية، كلاسيكية وجاز وروك أند رول، مرورا بفن الأوبرا والباليه والسامبا والفولكلور، والليالي اللبنانية التي تربع على عرشها لعقود الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، ورميو لحود، وصولا إلى أصوات قدت من الصخر وصقلت أوتارها الماسية غنى التجربة وروعة الأداء، ولم تغب رسومات الأطفال تستشرف المستقبل الموعود لوطنهم المنشود، مزدانة بالورود والرياحين.
النشيد الوطني افتتاحا، والبداية صاخبة مع “O Fortima” من تأليف كارمينا بورانا، والانتقال إلى رائعة جوسيبي فيردي “Va Pensiero”، وبعدها “أيام فخر الدين” في توليفة سيمفونية موسيقية مقتبسة ومعدة ومنسقة من الأخوين أسامة وغدي الرحباني، فموسيقى لغبريال يارد من فيلم “النبي”، ويطل الفنان رفيق علي أحمد بصوته الجهوري وحضوره المميز مؤديا قصيدة “من بين الأنقاض” للشاعر والأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران، على مسرح يحاكي السحر، لبناء هيكل للمحبة بين أضلعه، لأن الأبدية لا تحفظ إلا المحبة لأنها مثلها، ثم عودة إلى أحد أعمال إيغور ستافنسكي “The Rite of spring” او “طقوس الربيع، يليها “كشمير” من تصميم ليد زيبلين، وختامها مسك مع” نشيد الفرح” من أجمل مقطوعات سمفونية بيتهوفن التاسعة.
السجادة الحمراء التي غطت أرضية المعبد، تليق بالعازفين والكورال وكل مشارك في الحفل الذي قاده بإتقان وتفان المايسترو فازليان، الذي كانت تشع من عينيه عواطف نابعة من صميم قلبه، فتظهر على تقاسيم وملامح وجهه، فتوجه أنامل وأوتار وآلات العازفين قبل أن يلحظوا حركة يديه التي تنبض طربا وفرحا بالألحان والنغمات، وحتى القمر أطل بدرا مكتملا في كبد السماء، مسترقا السمع، ومزاحما آلهة الرومان باخوس وجوبيتر وفينوس، المتحلقين حول الأوركسترا الفليهارمونية اللبنانية، وقد اشرأبت أعناقهم من خبايا حكايات وأساطير الزمان، ليروا إله الموسيقى “أبولون” ويشنفوا آذانهم بألحان حلق بها “هاروت” إلى مصاف العالمية.
في الظروف العادية، رواد حفلات معبد باخوس لا يزيد عددهم على 700 شخص، فتساءل البعض عن جدوى إقامة حفل دون جمهور، فإذا بالمتابعين للعمل عبر محطات التلفزة والشاشات النقالة والبث الفضائي ووسائل التواصل الاجتماعي، يناهز العشرة ملايين، كما نقل الحفل مباشرة على واجهة متحف بيروت، وخصص أصدقاء المهرجان شاشة عملاقة وفسحة واسعة في المزرعة المجتمعية التابعة للجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب في سهل بعلبك، وصدحت الموسيقى في كل بيت، وكم من دموع انهمرت من المآقي فرحا، وتأكيدا لهذا الوجه البعلبكي الثقافي، وتعبيرا عن إرادة الحياة المتأصلة في حياة اللبنانيين، كطائر الفينيق تنبعث من الرماد مهما كانت المصاعب والتحديات.