مهاجرون مبدعون في كلّ علم وفن وفلسفة – بقلم – بقلم د. جهاد عقل
العالم جان برجيس المعلوف
واضع أنظمة التحكم بالبيئة وحماية الصحة العامة
ومبتكر تقنية تفتيت المواد الكيمائية السامة
ولد الدكتور جان برجيس المعلوف عام 1946 في بلدة كفرعقاب ، الواقعة في المنطقة الغربية من جبل صنين، في حرج طبيعة خلابة، تعانق القمر ليلا، فيحلو السمر والشعر، وتغازل الشمس نهارا فتبعث من ترابها الحياة : جداول عذبة، وبساتين غناء، ووديان أحلام وأنغام.. ومن عناق القمر ليلا، وغزل السماء نهارا، كان عرس الطبيعة في هـذه البلدة، الذي تمخض عنه ولادات عباقرة، أغنوا التراث الإنساني، خصوصا المهجري، بكل علم وفن وفلسفة، وقد احتكرت عائلة المعلوف، معظم هذه الولادات النوعية المييزة، فكان منهم الأديب والشاعر والسياسي والطبيب والفنان والعالم.. ولعل الدكتور جان المعلوف، كان ابرز هؤلأ العلماء، وقد احتل، من مطلع العام 1974 مرتبة أكبر علماء البيئة في الولايات المتحدة الأميركية .
كان الدكتور جان منذ نشأته مولعا بمادة الرياضيات، وقد أثبت تفوقه وجدارته في هذه المادة، عندما حل بين الأوائل في لبنان، في إمتحان شهادة البكالوريا- القسم الثاني(الرياضيات)، في العام 1963 .
بعد عامين على نيله شهادة الرياضيات بتفوق، سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية، ودخل إلى “جامعة ديتون” في ولاية أوهايو، ومنها انتقل إلى “جامعة تكساس”، وتخرّج منها عام1970 في الهندسة المدنية، ليتابع دراسته في هذه الجامعة في فرع الهندسة البيئية، وينال شهادة الماسترز، ثم الدكتوراة في هندسة البيئة في العام 1972، وعلى دكتوراة ثانية من جامعة تكساسس، في اختصاص “هندسة تلوث البيئة” .
تنقّل الدكتور جان في عدة مناصب قيادية؛ فعيّن مستشارا للمدعي العام في ولاية تكساس، عام 1974، ثم تسلّم إدارة شركة الخدمات البيئة في ولاية هيوستن عام 1979، وتوصل بعد عام إلى مركز نائب مدير شركة “بارسونزالهندسية”، ودخل في العام 1990 مستشارا للبيئة في “شركة أرامكو”، المختصة بشؤون البترول والمعادن في المملكة العربية السعودية.
وعمل أخيرا مستشارا لتلوث البيئة في “جامعة البترول والمعادن” السعودية.
تمكّن هذا العالم، الذي احتفظ بــ “جنسيته اللبنانية”، إلى جانب الأخرى الأميركانية، من تحقيق عدة إنجازات علمية، خصوصا، على صعيد حماية البيئة، من التلوث، ومن أبرز انجازاته على سبيل المثال، لا الحصر :
اولا : وضع أنظمة للتحكم بشؤون البيئة، ووقاية الصحة العامة من التلوث، وهذه الأنظمة توضع للمرة الأولى، في تاريخ هذا العمل، علما أن هـذه الأنظمة المبتكرة، قد أثبتت فعاليتها، من حيث السيطرة على شؤون البيئة ووقاية الصحة العامة من التلوث، الـذي تحدثه المؤسسات الصناعية، في البيئة الطبيعية، وقد أشرف بنفسه على تنفيذ هذه الأنظمة عندما عيّن مستشارا للمدعي العام في ولاية تكساس، وقد واجه معارضة رجال الصناعة، الذين تكبّدوا خسائر مرتفعة، نتيجة تطبيق برنامجه في حماية الصحة العامة من تلوث نفايات المؤسسات الصناعية، التي تهدف أساسا إلى جني الأرباح، بمختلف الوسائل، ولو على حساب صحة الإنسان وراحته وسعادته .
ثانيا : إبتكار تقنية جديدة لتفتيت المواد الكيماوية السامة، أو ما يعرف باسم (Bioremidiation (، أي “المعالجة الحيوية” . ويقضي هذا الأسلوب باستخدام بعض أنواع البكتيريا لهدم تركيب المادة الكيماوية، دون إنتاج مضاعفات جانبية . ونظرا لأهمية هذا الإبتكار وسريته، وعلاقته بالأمن القومي، لم يسجّل باسم مخترعه العالم جان، وإنما سجّل باسم “دولة الولايات المتحدة الأميركية”، وهذا تأكيد جديد لأهمية وخطورة وعظمة هذا الإختراع العلمي الجديد، الذي يبرز أهميته في النواحي العملية، ومثال على ذلك : يمكن استخدام طريقة “المعالجة الحيوية”، لتفكيك نفايات كيمائية، متجمعة في بحيرة ضحلة، تستخدمها المصانع لرمي النفايات الكيماوية، فتتحول مياه هذه البحيرة الملوثة بالنفايات، إلى مياه نظيفة غير ضارة، وبأقل كلفة ممكنة .
ثالثا : أشرف العالم جان على بناء ” المدينة الصناعية الجديدة” بالقرب من مدينة “ينبع” في المملكة العربية السعودية، وقد ابتكر طريقة جديدة حديثة للتخلص من النفايات الصناعية، الناتجة عن عمل مصانع هذه المدينة، وبدلا من رمي هذه النفايات في البحر الأحمر المجاور، وتلويث مياهه وثروته، عمد هذا العالم العبقري إلى تجميع النفايات ومعالجتها وإعادة استعمالها، وقد أدى نجاح هذه العملية في مدينة “ينبع” الصناعية، إلى انتشارها في معظم المدن الصناعية العالمية .
وهكذا يكون العالم جان برجيس المعلوف قد تمكن من تحقيق معجزة من بين أبرز المعجزات التي شهدها القرن العشرين، للحفاظ على البيئة والتخفيف من مخاطر تلوثها وفنائها .
إنّ العائلة المعلوفية التي أنجبت العالم جان، هي من بين أشهر العائلات التي عرفها لبنان في تاريخه الإغترابي، نظرا لهذا الكم الهائل من المفكرين والعلماء والأدباء والفنانين، الذين رفعوا اسم لبنان عاليا في المحافل الدولية. لقد شكّل “الإنتشار اللبناني” في العالم، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم، ثروة إنسانية معرفية كبرى لا تنضب ولا تجف، وستبقى الصفحات الخالدة في تواريخ الشعوب تحدّث الأجيال عن عطاءتنا الحضارية في كل علم وكل فن وكل فلسفة . هذه هي رسالة وطننا، مبعث الخير والعبقريات وجحافل المبدعين والمخترعين والمتفوقين، حتى أنّك اليوم لا تجدّ جامعة في العالم المتقدم إلا وقد تقدّم وبرع فيها معلم من لبنان، ولا تجد مركزا من مراكز العلم إلا وقد تبوأ الطليعة فيه عالم من لبنان، ولا تجدّ مختبرا للأبحاث العلمية الأرضية والفلكية إلا وقد لمع فيها إسم من لبنان .
ولكن، بالقدر الذي تشكّل فيه هجرة الأدمغة والكفايات مظهرا من مظاهر رسالة هذا الوطن، فالبقدر ذاته أو أكثر، تشكّل هذه الهجرة النوعية الشابة المثقفة خطرا على كيان الدولة وأسس بقائها وتقدمها . إنّ استمرار عملية الدول الصناعية المتطوّرة في إغراء كفاياتنا ونهبها المدروس والمنظم، إنطلاقا من مقولة مصالحها التوسعية : تسخير العلم والتكنولوجيا لأغراض التنمية، يتطلّب من دولة العناية بشعبها المقيم والمغترب أن تبادر وتطالب المجتمع الدولي بوضع تشريعات دولية تقضي بفرض رسوم على الدول المستفيدة من هذه الكفايات، لإنفاق هذا المردود المالي عل مشاريع الإستثمار والتنمية والإنماء في بلاد منشأ الكفايات والأدمغة للتعويض عن خسارتها لتلك الثروة الوطنية ، التي لا تقدر بثمن .