وثائق باندورا: 600 مليار $ سنويّاً تُسرَق من الفقراء
ماذا يعني أنّ أكثر من 330 سياسيّاً من 100 دولة تورّطوا في فتح شركات في ملاذات ضريبيّة لإخفاء أصولهم وثرواتهم، أو إبعادها عن أعين السلطات الضريبيّة المحليّة، فيما ضمّت لائحة السياسيين 35 رئيس دولة حاليّاً أو سابقاً.
يقدّر صندوق النقد الدولي أنّ قيمة الضرائب، التي تخسرها حكومات العالم نتيجة اتجاه رجال الأعمال إلى فتح شركات في الملاذات الضريبيّة، تتجاوز 600 مليار دولار سنويّاً، وكان يفترض أن يدفعها أثرياء العالم عن الثروات التي تختبىء اليوم خلف ستار الجنّات الضريبيّة، والتي يقدّر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أن تصل إلى حدود 32 تريليون دولار.
بالنسبة إلى لبنان تحديداً، فإنّ عمليّة تهريب الثروات إلى “الجزر العذراء” حملت وظيفة مختلفة، ارتبطت بالتملّص من قيود العقوبات الدوليّة، وإخفاء أيّ عمليات ماليّة يمكن أن تحاصرها هذه العقوبات
وهي أموال كان يُفترض أن تستثمرها الحكومات والمجتمعات في البنى التحتية وفي محاولة مساعدة الفقراء. لكنّ الأغنياء يرفضون دفعها، ويخفونها، ليراكموا ثرواتهم، فيما الفقراء يعانون من انعدام الأمان الاجتماعي ومن الفقر الصحّي والتعليمي والخدماتي.
“وثائق باندورا” هي المشروع الأضخم من نوعه على الإطلاق، إذ تتألّف من نحو 12 مليون وثيقة سريّة مسرّبة من 14 شركة تقدِّم الخدمات الماليّة للراغبين بتأسيس شركات في الملاذات الضريبيّة، خرجت إلى العلن تحت اسم “وثائق باندورا”. وهي مشروع فتح ملفّ الملاذات والجنّات الضريبيّة على مصراعيه، وباب السؤال عن طبيعة الخدمات التي تقدّمها هذه المناطق البعيدة عن رقابة الدول الأمّ، والأسباب التي تدفع رجال الأعمال إلى التوجّه إليها.
شملت لائحة المتورّطين فنّانين ورياضيين وعارضات أزياء، بالإضافة إلى مشاهير يعملون في مجالات مختلفة. في خلاصة الأمر، تعدّدت مصادر ثروات هؤلاء والأسباب التي تدفعهم إلى إخفاء هذه الثروات، لكنّ المشترك كان حاجتهم إلى الملاذات الضريبيّة وما توفّره من حماية وسريّة.
لبنان الأوّل بلا منازع
بات معروفاً أنّ لبنان المفلس حلّ في طليعة الدول من ناحية عدد الأفراد الذين لجأوا إلى هذه الملاذات الضريبيّة، حيث شملت اللائحة مصرفيين معروفين كمروان خير الدين، بل وحاكم مصرف لبنان نفسه. وشملت أيضاً نوّاباً وإعلاميين يصنّفون أنفسهم في خانة المعارضين للسلطة، كنعمة افرام، واستشاريين مقرّبين من رئاسة الجمهوريّة كالنائب السابق أمل أبو زيد، بالإضافة إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس الحكومة السابق حسّان دياب.
السبب الأوّل، الذي يدفع رجال الأعمال في العادة إلى التوجّه إلى الملاذات الضريبيّة، يكمن في رغبتهم بتفادي الكلفة الضريبيّة التي تترتّب عليهم في البلدان التي يمارسون فيها نشاطهم الاستثماري.
يقدّر صندوق النقد الدولي أنّ قيمة الضرائب، التي تخسرها حكومات العالم نتيجة اتجاه رجال الأعمال إلى فتح شركات في الملاذات الضريبيّة، تتجاوز 600 مليار دولار سنويّاً
ما يعنيه هذا الأمر هو أنّ هذه الجنّات الضريبيّة تسمح اليوم للنخبة الثريّة في المجتمع بإخفاء ثرواتها المتراكمة، وتفادي أيّ ضريبة تصاعديّة يمكن أن تتكبّدها كنسبة من أرباح نشاطها الاستثماري. أمّا سائر الطبقات الاجتماعيّة، وخصوصاً محدودي الدخل الذين لا يملكون القدرة على إخفاء أموالهم بهذا الشكل، فسيحملون الجزء الأكبر من الأعباء الضريبية. وهكذا، وبدل أن تكون السياسة الضريبيّة باباً من أبواب تحقيق العدالة الاجتماعيّة وتكوين شبكات حماية للفئات الأقلّ قدرة، تسمح الجنّات الضريبيّة بتحويل السياسة الضريبيّة إلى أداة من أدوات تركيز الثروة بيد القلّة، عبر حمايتهم من كلفة تمويل شبكات الحماية التي تقوم بها الدولة.
لكنّ استعمال الجنّات الضريبيّة لا يرتبط دائماً بعمليات التهرّب الضريبي، بل يمكن أن يخفي ما هو أخطر. فالميزة الأساسيّة للدول والمناطق المصنّفة كجنّات ضريبيّة تكمن في انخفاض كلفة تأسيس الشركات لديها، ومرونة إجراءات تسجيل هذه الشركات، بالإضافة إلى السريّة التي تمنحها لأصحاب الشركات الفعليين. وتتميّز أيضاً هذه الجنات الضريبيّة بأنظمة مصرفيّة تضمن سريّة العمليات الماليّة، بما يحمي رجال الأعمال من الرقابة التي يمكن أن تفرضها أيّ دولة أخرى.
كلّ هذه الأسباب تجعل من الجنّات الضريبيّة أماكن مثاليّة لِمَن يبحث عن أدوات لتبييض أمواله، أو على الأقلّ إخفاء الأموال الناتجة عن كسب غير مشروع. في بعض الحالات، تساهم إجراءات بعض البلدان في تسهيل هذه العمليّة، كحالة المملكة المتحدة التي تسمح قوانينها ببيع عقارات لشركات مسجّلة في جنّات ضريبيّة، من دون أن تكشف هذه الشركات بالضرورة عن أصحابها الفعليين. وبذلك يصبح تملّك العقارات من قبل هذه الشركات وسيلة لإخفاء الثروات التي تكوّنت بطرق غير مشروعة، أو لغسل الأموال. وهذا تحديداً ما يضع اليوم بريطانيا في قائمة الدول التي تملك أعلى نسبة نشاط للشركات المسجّلة في الجنّات الضريبيّة.
مواجهة بريطانيّة؟
منذ ثلاثة أعوام، حاولت الحكومة البريطانيّة العمل على مشروع قانون يفرض التصريح عن مالكي الشركات المسجّلة في الملاذات الضريبيّة، بهدف العمل على الحدّ من استعمال القطاع العقاري البريطاني في عمليّات تبييض الأموال. لكنّ مشروع القانون هذا ظلّ منذ ذلك الوقت في أدراج الحكومة، ولم يتمّ عرضه على البرلمان، على الرغم من صدور تقرير برلماني شهير يشير إلى القطاع العقاري البريطاني وما يجذبه من مبيّضي أموال يبحثون عن طرق لإخفاء ثرواتهم. ولعلّ عرقلة هذا القانون تعود تحديداً إلى حجم الأموال التي تمّ توظيفها في عقارات المملكة المتحدة، من خلال هذا النوع من الشركات المملوكة من سياسيّين ونافذين كبار من جميع أنحاء العالم، وإلى الأثر السلبي المتوقّع على القطاع العقاري البريطاني بمجرّد إقرار قانون من هذا النوع.
إقرأ ايضاً: فيلم “المعضلة الاجتماعية”: خوارزميات التحكم صندوق باندورا الجديد
في كلّ الحالات، وبالنسبة إلى لبنان تحديداً، فإنّ عمليّة تهريب الثروات إلى “الجزر العذراء” حملت وظيفة مختلفة، ارتبطت بالتملّص من قيود العقوبات الدوليّة، وإخفاء أيّ عمليات ماليّة يمكن أن تحاصرها هذه العقوبات. وفي الحالة اللبنانيّة أيضاً، يمكن القول إنّ اللجوء إلى هذه الملاذات في الخارج كان وسيلة لتهريب ثروات النافذين خلال الأعوام الماضية، قبل حصول الانهيار المالي سنة 2019، وهذا ما يفسّر وجود لبنان في طليعة قائمة الدول التي لجأ مواطنوها إلى تسجيل شركاتهم في الجنّات الضريبيّة.