“مدينة الموتى”..كيف يعيد موقع سياحي جديد في نابولي كتابة التاريخ القديم؟
تشتهر مدينة نابولي في إيطاليا عالميًا بأطلال هيركولانيوم وبومبي الرومانية، التي دمرها ثوران بركان فيزوف عام 79 ميلادي، لكن أحدث وجهاتها السياحية تظهر جانبًا مختلفًا تمامًا من المدينة.
ويُعد شارع “Ipogeo dei Cristallini”، والذي من المقرّر افتتاحه في يونيو/ حزيران المقبل، جزءًا من مقبرة قديمة، تقع خارج أسوار نيابوليس، وهو الاسم القديم للمدينة قبل 2300 عام.
والمقبرة لا تُعد أقدم بأكثر من 400 عام من أنقاض بومبي والمدن الرومانية الأخرى على طول خليج نابولي فحسب، لكنها ليست رومانية أيضًا على الإطلاق.
وفي الواقع، بناها الإغريق القدماء، الذين أسسوا نابولي في القرن الثامن قبل الميلاد، وأبقوها مدينة يونانية بالكامل، حتى عندما خضعت للسيطرة الرومانية بعد قرون.
ووفقًا لعلماء الآثار، يعد افتتاح هذا الموقع بتغيير طريقة تفكيرنا في مدينة نابولي، والبحر الأبيض المتوسط في العصور القديمة، وحتى الفن اليوناني.
كما يعتقد المشاركون في المشروع أن افتتاح الموقع سيساهم في حماية نابولي من الازدهار السياحي الذي إذا استمر، يمكن أن يجلب السياحة المفرطة إلى المدينة.
ويؤدي درج شديد الانحدار يختبئ تحت الأرض على مسافة 40 قدمًا تحت حديقة قصر يعود للقرن التاسع عشر، في ما يُعرف الآن بمنطقة سانيتا إلى أربعة مقابر لكل منها مدخل كبير خاص به، إحداها به أعمدة أيونية منحوتة على واجهته، وتفتح على ما يُعتقد أنه المسار الأصلي الذي كان من الممكن أن يسلكه المعزّون.
وهذا ليس سوى جزء صغير من المقبرة الأصلية التي بناها الإغريق.
ويُعتقد أن المقابر قد شُيدت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقتها كان من الممكن حفر العشرات منها في التلال خارج أسوار المدينة، حسبما يقول لويجي لا روكا، المسؤول عن التراث الأثري في المدينة.
وبنى الإغريق القدماء قبورًا ذات حجرتين – حجرة علوية حيث تُؤدى الصلاة، وأخرى سفلية حيث تُدفن الجثث – عن طريق حفر الصخور الناعمة، مثل صنع كهف.
ولكن هذه ليست مجرد كهوف، إذ نحتت الحجرات لتشبه الغرف الحقيقية، مع أسقف، ومقاعد، وسلالم مزيفة وحتى “أسرّة” ذات مرتبات عالية أي توابيت وُضعت العديد من الجثث بداخلها.
والجدير بالذكر أن جميع التفاصيل، وصولاً إلى “الوسائد” الممتلئة تمامًا على تلك الأسرة نُحتت من الواجهه الصخرية الأصلية.
لوحات ثمينة تسلّط الضوء على الفن اليوناني
ورغم من أن المقابر تُوجد تحت الأرض، إلا أن مداخلها كانت في الأصل على مستوى الشارع، ومن هنا كانت تلك الأعمدة الأيونية، مما يدل على مكانة النخبة لسكانها.
ولكن قرونًا من الانهيارات الطينية التي دمرت المنطقة بانتظام، والتي انتهت فقط في الستينيات عندما تم إصلاح نظام الصرف الصحي، أدت إلى دفن المقابر بعد بضعة قرون من بنائها.
وهذا يعني أن تلك المقابر تتمتع بمستوى استثنائي من الحفظ، وفقًا لعلماء الآثار، إذ أنها لا تزال تحتفظ بلوحات جدارية نابضة بالحياة.
ويُعد الفن اليوناني القديم معروفًا في جميع أنحاء العالم، لكن ما تبقى من غالبيته عبارة عن منحوتات.
وأشارت فيديريكا جياكوميني، التي أشرفت على مراقبة الموقع العام الماضي إلى أن “اللوحات الفنية اليونانية فُقدت بالكامل تقريبًا، حتى في اليونان لم يتبق شيء منها، على الرغم من أنها كانت مهمة طبقًا للمصادر”.
في الأعماق
وتعطي المقابر المرسومة انطباعًا مختلفًا جدًا عن الفن اليوناني مقارنة بتلك المنحوتات والمباني ذات اللون الأبيض (والتي، كانت ملونة في الأصل).
ويُوجد في أحد القبور درجات مطلية باللون القرمزي تؤدي إلى أرضية من الرخام الأحمر.
وتتزيين الجدران بلوحات جدارية مفصّلة، برسمات لأكاليل مورقة تتأرجح من الأعمدة، وشمعدانات ملتهبة، ومزهريات وأطباق كانت تستخدم في الطقوس الجنائزية، بالإضافة إلى شخصيتين بشريتين، يُعتقد أنهما الإله ديونيسوس وأريادن، وهي المرأة التي منحها الحياة الخالدة.
ويُوجد تمثال منحوت للوحش الأسطوري برأس امرأة وشعر من الأفاعي التي تلتف حول وجهها الجميل.
وكُتبت على الجدران أسماء مكتوبة باليونانية القديمة، وهي قوائم بأسماء المدفونين بالداخل.
وتُعتبر المقابر الثلاثة الأخرى مثيرة للاهتمام بالقدر ذاته، وفي إحداها لوحة جدارية، رغم أنها تضررت إلا أنه من المأمول أن تؤدي عمليات الترميم المستقبلية لإعادتها إلى الأضواء.
وفي أماكن أخرى تُوجد منحوتات لأشخاص، وآثار للوحات تحمل صور أسلاف يحتمل أن يكونوا قد ماتوا، وفقًا لباولو جوليريني، مدير متحف الآثار الوطني في نابولي، الذي يضم مئات الاكتشافات من المقابر، بما في ذلك المنحوتات، والمزهريات، والرموز المنحوتة للبعث.
مدينة الموتى تحت المدينة الحديثة
وهذه ليست المقابر الوحيدة التي تم العثور عليها في المقبرة القديمة، إذ يقول لا روكا إنه تم تحديد حوالي 20 مقبرة تحت المباني في منطقة سانيتا، التي بُنيت في القرن السادس عشر.
وتعرضت المقابر للتلف بسبب أعمال البناء في القرن الثامن عشر الميلادي، والتي اكتُشفت رسميًا في عام 1899، لكنها بقيت مغلقة أمام الجمهور – حتى الآن.
ويراقب علماء الآثار الموقع منذ مايو/ أيار 2021 لفهم المخاطر المحتملة. وبمجرد الانتهاء من مرحلة المراقبة، ستفتتح المقابر لزيارات محدودة، بينما تبدأ أعمال الترميم.
وسيتمكن الزوار من رؤية المقابر كما هي الآن – إلى حد كبير كما كانت عند اكتشافها – وسيشهدون إعادتها للحياة تدريجيًا.
تغيير السياحة في نابولي
ويأمل جوليريني – الذي يرعى عشرات الآلاف من التحف من بومبي وهيركولانيوم في متحفه – أن تصحح المقابر أيضًا “عدم التوازن” في كيفية إدراك الزوار للمدينة اليوم، وربطها بالآثار الرومانية في المنطقة.