ما بعد «كورونا»… العالم إلى أعوام من العزلة
كيف يبدو مستقبلنا بعد الوباء؟ سؤال يتجنّب كثيرون الإجابة عليه، نظراً إلى الأحوال المتغيّرة بشكل جنوني، بوجود عدو مجهول لا تزال البشرية في خضم المعركة معه. وكالة «بلومبرغ» طرحت السؤال على اقتصاديين وصانعي سياسات، ارتأوا تحليل الوضع، بناءً على ما توفّر من معطيات، واستناداً إلى الوقائع والمتغيّرات التي أحدثها الوباء حتى الآن. ومع تأجيل الإجابات الواضحة، ما يمكن تأكيده أنّ الجائحة أجبرت كثيرين على التخلّي عن تنبّؤاتهم السابقة لعام 2020 والأعوام اللاحقة. حقيقة واحدة فرضت نفسها، وهي أنّ الحياة البشرية ستشهد تغييراً جذرياً، على المدى القريب، وربّما يطول هذا التغيير ليصبح دائماً، ما يعني أنّ العودة إلى ما قبل «كورونا» دونها كثير من الصعاب.
تدخّل أكبر للدولة
«الإغلاق الكبير» قد يدفع العالم إلى أعمق انكماشٍ اقتصادي منذ الكساد الكبير، بحسب اقتصاديين يرى بعضهم أنّ «القاع بات قريباً»، فيما يتوقّع آخرون أن يعود الاقتصاد إلى ما كان عليه قبل الوباء. الرؤية الأولى تتجلّى في الاتجاه نحو تخفيف كبير للديون، ما يعني مزيداً من تدخّل الحكومة… مروّجو هذه النظرية يستشرفون «توتّرات متزايدة» بين الصين والولايات المتحدة. من هؤلاء مدير «معهد آسيا العالمي» شين زيوو، الأستاذ في الاقتصاد في جامعة هونغ كونغ، والمستشار السابق للحكومة الصينية، الذي يرجّح أن الحرب الباردة ستكون أكثر وضوحاً بين الصين والغرب بقيادة الولايات المتحدة بعد استقرار الوباء. ونتيجة لذلك، «ستعود الصين إلى جذورها الشيوعية، والعصر الماوي، من حيث نظرة العالم والعقلية السياسية».
وفي إطار التركيز على الدور الصيني خلال الفترة المقبلة، يرى الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي وفي «مورغان ستانلي»، ستيفن جين، أنّ فيروس «كورونا» سيجعل العالم يبدو أشبه بالصين، من حيث تدخّل الدولة في أنشطة القطاع الخاص. «إنها الولايات المتحدة، التي ستتلاقى مع الصين، وليس العكس».
كيف سيكون تدخّل الدولة؟ سؤال حاول الإجابة عنه الأستاذ في جامعة تكساس، جايمس غالبريث، متنبئاً بإعادة تشكيل النظام المالي بأكمله. إذ «ستكون هناك مجموعة كبيرة من الديون غير المدفوعة، والتي لا يمكن تسديدها»، ما يعني أنه «سيتوجّب إيقاف عقود (الإيجار، الرهن العقاري، الملكية…) وتصفية الديون»، أما الخيار الثاني فهو «المواجهة على نطاق واسع»، مشيراً إلى حلٍّ لمشكلة الديون، عبر اتباع معالجة شبيهة بمعالجة ديون الحرب بين الحلفاء، بعد الحرب العالمية الثانية عندما أُلغيت الديون، «على اعتبار أن التعامل مع عدو مشترك كان جهداً مشتركاً».
أكثر انعزالاً… وأقلّ عولمة
عدد من المموّلين والمختصّين بالشأن الاستثماري رأوا أنّ التغيير سيكون بالاتجاه نحو الانعزال والاعتماد على الموارد الداخلية لكلّ بلد. من بين هؤلاء ألان باتريكوف، المدير الإداري في شركة «غرايكروفت» Greycroft. في رأيه أنّ العالم «قد يكون أفضل وألطف»، إلا أنه يشير إلى «أمرٍ لن يكون جيداً، وهو أننا سنصبح أكثر قومية وأكثر انعزالاً وأقلّ عولمة». كما «سيكون هناك استيراد أقلّ، وميلٌ أكثر للتصنيع في الداخل، ولن يكون هناك اعتماد على الآخرين، سواء في ما يتعلق بالنفط أو المكوّنات الإلكترونية…».
والعزلة هي ما حذّرت منه آن كرويغير، المسؤولة السابقة في صندوق النقد الدولي، لأنه «في حال اختارت دول عزل نفسها عن بقية العالم وفشلت في العمل مع غيرها، فإنّ الأزمة ستستمر لفترة أطول، وستزداد فرص تصاعد القومية، وتقلّص التكامل إلى حدّ كبير، على حساب العالم بأسره».
يتكرّر هذا التحذير بأكثر من طريقة، بعدما بيّنت تجربة مواجهة فيروس «بأنّ الدول لا تستطيع العمل لوحدها في الأزمات، بل يجب أن تتكاتف في سبيل تخطّيها. الرئيس السابق للمصرف المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه، يؤكد، في هذا الإطار، أنّ «من الدروس المستفادة من الأزمة، زيادة مرونة جميع الاقتصادات والكيانات، العامّة والخاصة، والتحضير المسبق لما نعيشه الآن، أي التوقّف المفاجئ لجزء من الإنتاج والطلب في العديد من اقتصادات العالم». تريشيه شدّد على أنه «لا يجب أن نعتمد على مصدر واحد فقط لأي خدمة أو سلعة لمجرّد خفض التكاليف». ويذهب إلى حدّ تحديد أساس المرحلة المقبلة، «حيث ستكون فكرة إدارة المخاطر، وتنوّع المخاطر، على مستوى الكوكب، جزءاً رئيسياً من مفهوم العولمة المستدامة».
وقد تكون للتجربة الأميركية صلة بهذا التقدير، ولا سيما أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب لم تبد جاهزة بما فيه الكفاية لمواجهة الأزمة. وفي هذا الإطار، كان لروبرت ريش، وزير العمل خلال عهد الرئيس بيل كلينتون، انتقاده المبطّن، إذ أكد أنه «لا يمكننا أبداً أن نجد أنفسنا غير مستعدّين، ونفتقر إلى الأساسيات». بحسب ريش، «يُظهر الأميركيون، بشكل عام، تقديراً أعمق لمدى أهمية الحكومة». وهو يرى أن «الأميركيين الذين سيخرجون من هذه الأزمة سيقولون لأنفسهم: نحن بحاجة حقاً إلى حكومة تعمل بشكل جيد. ويجب أن يكون لدينا نظام صحة عامة الأفضل في العالم».
لعبت تجربة مواجهة «كورونا» دوراً في الاعتقاد بأنّ الدول لا تستطيع العمل لوحدها
في سياق آخر، يستشرف العديد من الخبراء والمعنيين تغييراً كبيراً على مستوى العادات الاجتماعية، وطريقة المخالطة بين الناس، والتجمّعات والاحتفالات… بيل ستومبيرغ، وهو رئيس لإحدى الشركات الاستثمارية، يعتبر أنّ التأثيرات «ستكون مجتمعية واقتصادية وسياسية وشخصية، من أصغر الأمور مثل أن تكون أكثر اهتماماً بالنظافة الشخصية، والتدقيق بالمعايير الثقافية مثل المصافحة، إلى أشياء أكبر مثل الطريقة التي قد تجري من خلالها الانتخابات والتجمّعات الجماهيرية، أي الأحداث الرياضية مثلاً». يشير ستومبيرغ إلى ما نشهده اليوم، بالفعل، أي «التغييرات التي يبدو أنها تنطوي على إمكانات حقيقية لتصبح طويلة الأمد، بما في ذلك الاستخدام المتسارع للتكنولوجيا لتسهيل العمل عن بعد، والتعلّم عن بعد…». ومن هذا المنطلق أيضاً، يعتبر العديد من العاملين في مجال مبيعات الثياب، مثلاً، أن نسبة كبيرة من الناس ستفضّل الشراء عبر الإنترنت، بدل الذهاب إلى المجمّعات التجارية. وهذا الأمر ينطبق على الكثير من المجالات، منها المعاملات المصرفية، والتبادلات التجارية…
من جهته، يرى جايمس مورغان، المدير التنفيذي في المصرف الاستثماري «مورغان ستانلي»، أن المرحلة المقبلة، ستشهد تغييراً في طريقة العمل، حيث سيختار كثيرون العمل من المنزل، معتبراً أنّ هذه التجربة كانت جيّدة.