شارفَ العام الحالي على الانتهاء، ويتطلّع كلٌ منّا الى العام المُقبل لعله يحمل جديداً يُخرجنا من الواقع الحالي، أو يُغرقنا الى أعماق لم نشهدها من قبل. في وضع كهذا تكثُر التوقعات لسعر الدولار مقابل الليرة للعام 2021.
حفظت من الأرقام، على كثرتها، تلك التي أصدرتها مراجع أجنبية:
- بنك أوف أميركا توقّع الدولار بـ 46500 ليرة في نهاية العام 2020.
- صحيفة إندبندنت توقعت، بحسب الخبير عمر تامو، بلوغ الدولار 17500 ليرة بعد رفع الدعم.
- معهد التمويل الدولي وضع سيناريوهين مختلفين؛ إمّا توحيد «أسعار» الدولار بسعر 6200 ليرة أو بلوغ الدولار 14500 ليرة مع السماح بسحب الدولار من المصارف على 8000 ليرة.
لا ألوم المواطن اذا ما أضاع بوصلته في هذا الكم من التوقعات، وهو الغريق في بحر من الظلمات يبحث عن حبل ولو من هواء ليتمسّك به، لعله يَنتشله من الضياع الذي تتخبّط فيه لقمة عيشه. لا ألومه لأنني لم أجد في هذه التوقعات طريقة الاحتساب التي بُنيَت عليها وإن كان البعض منها قد يكون صائباً.
تعالوا نحلّل ولا أقول نتوقع، لعلنا نصل الى نتيجة علمية تنير بعض الشيء مصيرنا الذي أقلّ ما يُقال فيه أنه مجهول وضبابي.
لنبدأ بما يتمّ تداوله حول مبدأ تثبيت سعر الصرف والذي تتجاذبه الأرقام من كل حدب وصوب؛ هذا يقول سيثبتوه على 4000 ليرة وذاك على 6200 ليرة وغيرها من الأرقام التي يطالعنا بها البعض من دون إعطائنا حتى اليوم طريقة الاحتساب. كنت أودّ لو أستطيع أن أشاركهم حلمهم الجميل، لكنّ التقنيات وما أثقلها ما تلبث أن تشدّني الى أرض الواقع فأجيبهم بمرارة؛ هل تعلمون ما معنى تثبيت سعر أي سلعة كانت؟
عمليّاً، يمكنك أن تثبّت سعر أية سلعة على مستوى معيّن عندما تتمكّن من مساواة العرض والطلب على هذا المستوى وهذا من أبسط البديهيات. بمعنى آخر، أن تلبّي كل الطلب على هذه السلعة، وعلى هذا المستوى بالذات، مهما بلغ حجمه، وإلّا فأنت تقع في مبدأ المزايدة عليها (Auction). السؤال يبقى هل يستطيع مصرف لبنان أن يلبّي الطلب على الدولار على سعر 6200 ليرة أو أي سعر آخر؟ بالطبع لا، وقد برهَنتُ في مقالات سابقة أنّ استراتيجية معاكسة الرياح (Leaning Against the Wind) لم تعد قابلة للتطبيق، وهذا بسبب انخفاض الإحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. وبناء عليه، إنّ أي تثبيت لسعر الصرف لن يكون الّا مؤقتاً، وسيأتي على بقية أموالنا لدى المصرف المركزي.
يتفاءل دُعاة تثبيت سعر الصرف بما سيغدقه صندوق النقد علينا من أموال مما يساعد في تثبيت السعر، بينما يشترط الصندوق من جهته تحرير سعر الصرف للتعاون مع لبنان. وفي ذلك ضياع بين نقيضين.
هذا من ناحية عدم إمكانية تثبيت سعر الصرف، أمّا من ناحية سعر سحب الدولار من المصارف في 2021 على 8000 ليرة وفي ما يتعلق بتوقعات المراجع العالمية لسعر السوق السوداء على 14500، 17500 أو 46500 ليرة للدولار، فلنحللها معاً.
إنّ رقم 46500 ليرة الذي توقعه بنك أوف اميركا لنهاية العام 2020 يبدو بعيداً في الوقت الحاضر، وإن كان العام لم ينته بعد. وهو إن دلّ على شيء فهو أنه حتى أكبر المراجع الدولية تخطىء في توقعاتها. هذا لا يعني طبعاً استبعاد هذا الرقم في السنوات القادمة، فالخطأ بالتوقيت يبقى وارداً ومن المحتمل أن يتحقق تَوقّع بنك أوف أميركا في السنوات القليلة المقبلة طالما لم يطرأ حدث إيجابي كبير يغيّر في مسار الأمور.
أمّا بالنسبة لرقم 8000 ليرة للسحوبات من المصارف، وبالعودة الى مبدأ محاكاة أزمة الدولار في الثمانينات، أعدتُ بناء الأرقام بطريقة المحاكاة (Simulation) وبنفس نسَب تطور أسعار الدولار في فترة 1983 – 1992 ولكن انطلاقاً من سعر 1500 ليرة للدولار الواحد وبدءاً من تشرين الاول 2019، فبيَّنَت لي أسعار الدولار في المصارف على الشكل التالي:
2019: المحاكاة أعطت 2189 ليرة، والواقع أعطى 2200 ليرة.
2020: المحاكاة أعطت 3565 ليرة، والواقع أعطى 3900 ليرة.
2021: المحاكاة أعطت 7259 ليرة، والواقع ينتظرنا السنة القادمة.
وكما يبدو أعلاه فإنّ توقّع معهد التمويل الدولي 8000 ليرة للدولار الواحد للسحوبات المصرفية في 2021 قريب جداً من نسبة ارتفاع الدولار في السنة الثالثة من انهيار الليرة في الثمانينات من 8,89 ليرات في آخر سنة 1984 الى 18,10 ليرة في آخر سنة 1985، أي أن الدولار المصرفي تضاعف بين السنتين الثانية والثالثة من الانهيار في الثمانينات. وبالتالي، فإنّ سعر 8000 ليرة للسحوبات المصرفية في 2021 لديه تفسيره العلمي.
المرجع لفترة 1982-1992 كتاب: L’effondrement de la livre libanaise 1982-1992, une histoire qui nous hante – Fadi Khalaf
بالنسبة لتوقعات معهد التمويل الدولي لسعر الدولار في السوق السوداء 14500 ليرة في العام 2021 وصحيفة إندبندنت 17500 ليرة بعد رفع الدعم، أعود بتحليلي إلى التجربة المصرية الأخيرة بين عامي 2016 و2018 وهي تُظهر بأنّ السلطات النقدية المصرية كانت تقوم برفع سعر الدولار لدى المصارف ليشكّل ما يقارب 50% من السعر في السوق السوداء، ثم تعود إلى رفعه مجدداً كلما ارتفع السعر في هذه السوق، إلى أن استقرّ الوضع في النهاية على ملاقاة السعر الرسمي للسوق السوداء، مع فوارق مقبولة نسبيّاً عند استتباب الوضع. ونلاحظ حالياً محاولة مصرف لبنان الحفاظ على سعر الدولار على 3900 ليرة لدى المصارف أي حوالى 50% من سعر السوق السوداء (مع هامش يتراوح بين 40% الى 60%) لأسباب عديدة، قد يكون أهمها ثَني المودعين عن سحب دولاراتهم من المصارف بالليرة لشراء الدولار الورقي من السوق السوداء عند أول فرصة.
فلو افترضنا أنّ سعر السحوبات المصرفية في 2021 سيتراوح بين 7000 و8000 ليرة، قد يكون من المنطق الاستنتاج أنّ سعر الدولار في السوق السوداء يمكن أن يتأرجح ما بين 13000 و20000 ليرة، على اعتبار أنه ولفترات محدودة قد يزيد سعر السوق السوداء عن ضعفي سعر السحوبات من المصارف في احتمالات تجاوز الهدف (overshooting) قبل أن يعود ويتراجع. ويبدو أنّ توقعات معهد التمويل الدولي وصحيفة إندبندنت للعام 2021 يقعان كلاهما ضمن هامش 13000 الى 20000 ليرة للدولار في السوق السوداء.
هذا كان تحليلٌ لأرقام التوقعات الدولية التي تتساقط على المتعاملين بالليرة حالياً لعلّنا نجد بعض المنطق في هذه التوقعات، على أمل أن لا نخلط بين التحليل العلمي والتوقعات غير المبرّرة علمياً لسعر الدولار حتى لا يُقال يوماً «كذب الخبراء ولو صدقوا».
صحيفة الجمهورية